Monday, August 27, 2007

الطيب محمد الطيب الهودج الثقافي المتنقل بين ديار الوطن )


سودانيون فوق سطح القمر

الطيب محمد الطيب (الهودج الثقافي المتنقل بين ديار الوطن )

( نحن الشان ونحن النان أتينا عشان نسوى الدنيا للإنسان – تقولي شنو وتقولي منو ) سيد احمد الحردلو


حسن احمد الحسن / واشنطن

كان آخر لقاءاتي بالأستاذ الطيب محمد الطيب في القاهرة بعد منتصف التسعينات عندما أتاها زائرا ومستشفيا ، كان كالعهد به متسائلا ومستفسرا عن كل من حوله وما حوله . حديثه لا يمل تتشابك فيه الكلمات المتأنية وكأنها تريد أن تستوثق من أناقتها قبل أن تخرج لمتلقيها ، والنظرات الثاقبة الذكية التي تتخذ من عينيه المميزتين ملاذا آمنا هي ذاتها تنفذ إلى عمق السؤال . كان فخورا بتراثه الأنصاري وحافظا له لم ينكر انتماءه رغم سطوة الديكتاتورية وسوء تقديرها للخصوم الذين ينتمي إليهم ورغم التضييق عليه. يتدفق عندما يتحدث إليك عن شعراء المهدية أقاصيصهم وحكاويهم ، وهو من منطقة تعتز بانتماءاتها لتراث المهدية ولا تزال تنغرس فيها تلك الرايات التي حفظت للسودان عناقيدا من البطولة والتضحية تأسره كلمات ود سعد في سفر قرشي محمد حسن ( قصائد من شعراء المهدية )
عندما يقول ود سعد " أنصارك المنصورة – جمالون باطن ما صورة – حازوا الجنات وقصورا – والفي الخيام مقصورة .
نبت الطيب كنبت طيب في تربة تزخر بالعلم وفنون الأدب بين أفذاذ في الشعر والأدب والرواية فاستلهم من هذا المناخ مزاجه الخاص ، هي ذات المنطقة التي أوقد فيها المجاذيب نار القرآن ،وتدفق فيها المبدعون نثرا وشعرا وفكرا منهم العلامة البروفسور عبدا لله الطيب ، والشاعر الفذ محمد المهدي المجذوب ، والشاعر القومي عكير الدامر الذي قال تأكيدا لولائه وولاء ربعه لدرب الأنصارية وللإمام عبد الرحمن المهدي في خضم التحديات التي شهدها الوطن في تلك الفترة :

عهدنا فيك كنداب حربة ما بتشلخ
صرة عين جبل ملوية مابتتفلخ
من المسكة كان إيدينا يوم تتملخ
السما ينتكي وجلد النمل يتسلخ

وهي ذات المنطقة التي أنجبت الأديب الأستاذ الشاعر مدثر الحجاز الذي يحبب إليك اللغة العربية نثرا وشعرا وإلقاءا ، والذي يتميز في فن الإلقاء عبر شاشة التلفاز عندما يحلق بروائع الشعر العربي :
تعلق قلبي بطفلة عربية
تنعم بالديباج والحلى والحلل
لها نظرة لو أنها نظرت بها على راهب لصام لله وابتهل

وشاعر الكلمة العذبة المسرحي المبدع السر أحمد قدور الذي اختار لعقود أن يكون أهراما رابعا في مصر والذي أثرى ساحة الغناء والطرب في السودان بروائعه
(سألوني عن حبي أنكرت ما قريت شا فوهو متخبي في عيون تقول
ياريت ) التى تغنى بها ترباس
(ياصغير يامحيرني ومتحير أنا عمري زمانك انتا وزمانك عمرو قصير)
التى تغنى بها الكاشف ورصيد عبقري من مئات الأغنيات والمسرحيات والمؤلفات عن تاريخ الأغنية السودانية . وغيرهم من المبدعين والساسة والزعماء والنظار والشيوخ .

هذا المحيط الحيوي الذي نهل منه الطيب محمد الطيب في بداياته التى ألهمته التميز ، يمتد من منطقة المقرن والعكد والشعديناب في دامر المجذوب ونهر عطبرة وخلاوي كدباس ، و شمالا مرورا بأتبرا ودار مالي وبربر والعبيدية والباوقة عبر ديار الميرفاب والجهيماب والرباطاب والمناصير والشايقية والمحس حتى أقاصي الولاية الشمالية بين الضفتين وجنوبا مرورا بجبل ام على والعالياب والزيداب وإلى ديار الجبلاب والحريراب في شندي والمحمية بين الضفتين وعلى امتداد ولاية نهر النيل وحتى تخوم ولاية الخرطوم .

استمد الطيب خصائصه الإنسانية ومكوناته الشخصية النبيلة من مجتمع يزخر بالتفرد صاغه أعلام في الإدارة الأهلية كمختار ود رحمة ناظر الميرفاب وعمر ود رحمة الأنصاري الصميم ومن قلعة الوفاء في مضارب العكد ورموزهم كالعوض حسن على وآل ابوالقاسم وآل سعد وسلسلتهم الذهبية . وأعلام في التجارة والاقتصاد القيمي الذي يقوم على الخلق كآل طلب ( ابراهيم والطيب طلب وأنجالهم ) والجبوراب في بربر أبشر جبورة وأبناؤه الذين اثروا حركة التجارة الوطنية في أم درمان التي تستهدف بناء المجتمع لا إفقاره . وأعلام في التصوف كالشيخ الجعلي وخلفائه من الطريقة القادرية ومعلم المهدي شيخ الطريقة السمانية الشيخ محمد خير، الذي تنبأ بالمهدية ثم تبعها فضلا عن خلاوي المجاذيب ونيران القرآن المتقدة عبر القرى النيلية.
حدثني الطيب في القاهرة عن جدنا المشترك الأمير سليمان ود قمر فقال إنه قاد عمليات المواجهة التي شملت منطقة بربر والنخيلة والدامر في مواجهة حملة استيورت باشا التي أتت بواخرها عبر النيل لنجدة غوردون باشا الذي تحاصره آنذاك فيالق المهدي في الخرطوم . واستشهد سليمان ود قمر في تلك المعارك بعد أن عرقل سير بواخر استيورت باشا نحو الخرطوم حتى يتمكن الأنصار في الخرطوم من إحكام سيطرتهم ، ولم تفلت تلك البواخر إلا على أجساد المجاهدين التي أصبحت تزين صفحات الماء علوا وعلوا كورود أبيض إستوائي عالق بصفحة الماء . من ذلك القبس استمد الطيب توهجه واكتسبت المنطقة أصالتها ووطنيتها فصارت عنوانا للولاء والوفاء مثلما صار أبناؤها أوسمة على صدر البيت الكبير .

نذر الطيب نفسه وجهده لجمع التراث وكأنه يبحث عن ملامح أمة باعدت بينها المسافات من أقصى شمال السودان إلى أقصي غربه وشرقه ووسطه نيله وبحره وجنوبه باحثا وكاتبا ومحاورا ومستجلبا لكنوز الثقافة والفلكلور وامتد عطاؤه في عرض صور المجتمع وإبداعات شعوبه وقبائله دون رهق يحسه فجمع تراث البطاحين وتعقب سيرة الشيخ فرح ود تكتوك وكتب عن المسيد والإنداية وتقصى سيرة قبيلة "الحمران" من أهل تاجوج ، أدبهم وفنونهم وكتب عن تاريخ المناصير ، وقدم صورا من الدوبيت والشاشاي من مناطق النيل والبطانة وكردفان ودارفور وتحدث عن الحكامات وأغاني البنات وغيره . كان الطيب محمد الطيب مخزونا ثقافيا لا ينضب ونهرا عذبا متدفقا لا يفتر عن الجريان .
جسد الطيب محمد الطيب في كل تفاصيل حياته نوعا مثاليا من التواضع يرفعه درجات بين الناس يستعصى على الآخرين الصعود إلى مراقيه ، حيث كان جلبابه الأنصاري الأبيض وعمامته وشاله وعصاه وهي تتحلق به تبدو وكأنها تحتفي بالجسد الذي يحملها ، مثلما أن الجسد بدوره يتألق بهاءا لشفافية الروح التي تتدفق بين جوانحه .
كان من أهم ذاكرات الأمة في مجالات التراث ورمزا من رموز الثقافة والإبداع الشعبي في صوره المتعددة . ولعل ما يجد ر ذكره أن الطيب بقوميته وسودانيته وعطاءه الممتد بين الشعوب والقبائل غربا وشرقا وجنوبا ووسطا ونيلا وهو يسعى بينهم للتعارف والتلاقي عبر هذا الوطن الواسع ، كأنما يريد أن يدحض رزاز عبارات شعوبية سقيمة تضع النيل وكأنه رمزا للخصومة مع أطراف واديه شرقا وغربا بما يقدح به البعض من مقولات عجفاء ( نيل ،مركز وهامش وما بينهما ) وغير ذلك من عبارات الاستعداء وتحريض الأمكنة ضد بعضها .
كان الطيب علما من أعلام الأمة طرق مجالات لم يطرقها قبله أحد يستقصي ويجمع المعلومات من مصادرها الأساسية في شفافية وتروي أشبه في جمعه للتراث بجامع الحديث دقيقا في تمحيصه ، متفردا في بحثه وهو من الذين لفتوا الانتباه لأهمية التراث و ضرورته كلبنة أساسية من لبنات بناء الأمة في وطن متعدد متباين كالسودان . و للطيب مؤلفات ثرة نشرت في غالبها بجهوده الخاصة ولا يزال بعضها ينتظر ولعل من أهم هذه المؤلفات :
تاريخ قبيلة المناصير ، تاريخ قبيلة البطاحين ، المرشد لجمع الفلكلور ، المسيد ، الإنداية ، الشيخ فرح ودتكتوك ، الدوباي – دراسة في بحور الشعر والغناء الشعبي ، وهي مؤلفات تم بعضها بمشاركة بعض المهتمين .
ولديه مؤلفات لم ترى النور بعد منها : الإبل ، بيت البكاء ، تاريخ المديح النبوي في السودان ، الصعاليك العرب وغيرها ولعل اهتمامات ومجالات هذه المؤلفات وصاحبها تعكس الميدان الحيوي الذي يعمل فيه الطيب وهو ميدان من البحث أشبه (بالسهل الممتنع )
الغريب أن مؤسسات ووزارات الثقافة والإبداع في كل أنحاء الدنيا تهتم بالمبدعين والفنانين والمفكرين وتعمل على تشجيع الباحثين وتسعى إلى تكريمهم في حياتهم وتسويقهم عبر المؤتمرات والمهرجانات الدولية إلا في بلادنا العامرة بمبدعيها في شتى المجالات الذين لا ينالوا في حياتهم ما تغر به عيونهم وترتاح إليه نفوسهم . ومعظمهم لا يتسنى لهم رؤية مظاهر تقدير أمتهم لهم إلا من عبارات التأبين بعد غيابهم .
هل ترى أن وزارة الثقافة ستفطن إلى ضرورة تكريم المبدعين وتسويق عطائهم الثر الأحياء منهم ومن مضى كضرب من ضروب الثروة القومية هل تراها تخلد إبداعاتهم وأسمائهم في قاعات المحاضرات والمراكز الثقافية المتخصصة وعبر نشر إبداعاتهم وتسويقها في المحافل الإقليمية والدولية وتترجمها إلى أعمال إعلامية وبرامج وثائقية كسائر الأمم أم أنها ستكتفي فقط بعبارات التأبين كلما غاب نجم عن سماء الوطن .

24 أغسطس2007



السودان وطن يذخر بنوع نادر من الرجال والنساء قلما تجد شبيها لهم لكنهم يمضون في تواضع كالأنجم بعد أن يهدوا الناس طريقا للعبور إلى غاياتهم .دائما ما يكون رحيلهم في صمت إلا من ضجيج الحزن وجلبة الفقد ومأساة فراقهم لمن سعد بصحبتهم وعشق لحظاتهم النادرة ونال من خصوصيتهم المتفردة . ومنهم من لا يزالون أحياءا يتجددون كالشمس في كل صباح تتفاوت درجات دفئهم وإشعاعهم لكنهم يظلون دوما كل في مجاله مصدرا للفكر والإبداع ووقودا نوويا للخلق والتميز تضاء بهم دروب المعرفة وتزدهي بهم الساحات . ورغم تكاثف الضباب يظلون أنجما في سماء هذا الوطن تسهر على هدأته وضياءا ينساب بين حناياه ، من مضى منهم يظل حاضرا ومن بقي يظل مؤثرا في التفاصيل .


القاهرة وإلفه الأمكنة


حارة على الكسار .. كانت هي طريقي المعتاد الذي اعبر من خلاله كل يوم لأكثر من ست سنوات من ميدان رمسيس إلي عمارة الثورة حيث يقبع مكتبنا الذي استئجرناه كمقر لجريدة الوحدة وتحول بعد ذلك إلي مكتب إعلامي للمعارضة قبل الانتقال الي مصر الجديدة .
سميت هذه الحارة باسم احد عمالقة الكوميديا في مصر وهو الفنان على الكسار . و علي محمد الكسار ولد في 13 يونيو 1887 بحي البغالة بالقاهرة وكان والده سروجي ولم يتعلم علي الكسار حرفة والده كما لم يتعلم القراءة والكتابة وعمل كمساعد طباخ لخاله وهو في التاسعة من عمره مما أتاح له فرصة الاختلاط مع النوبيين من بوابين وسفرجية وسائقين وتعلم لهجتهم وطريقة كلامهم. عشق الكسار التمثيل منذ صغره وفي العام 1907 كون فرقة تمثيلية تحت اسم دار التمثيل ، وانتقل بعد ذلك للعمل في فرقة دار السلام بحي الحسين إلي أن ظهر في شخصية عثمان عبدا لباسط الخادم البربري في العام 1917 -واستطاع بهذه الشخصية أن يكون نداً لكشكش بك والتي كان يقدمها نجيب الريحاني.
لا تزال حارة على الكسار تتمسك بشكلها القديم رغم ما طرأ على بعض جنباتها من عمليات تجميل موضعي . تتلاصق جنباتها المتعرجة التي أفلح بعض تجار النحاس إلي تحويلها إلي محلات صغيرة لبيع قضبان النحاس وأدوات ومعدات الإطفاء .
كنت أدلف صباح كل يوم إلي الحارة من ميدان رمسيس عبر شارع الجمهورية ، الصورة تتكرر كل يوم قد تختلف قليلا في بعض تصرفات الناس وإيماءاتهم وربما عباراتهم و صياحهم اليومي .
أول ما يقابلك عند مدخل الحارة ذلك الجامع العتيق الذي كان في كامل زينته في عصر هذه الحارة الذهبي وقد ظل المسجد صامدا أمام حركة التغيير كالعديد من مساجد القاهرة التاريخية التي حافظت على وقارها على مدار الزمن . يؤم المسجد المصلون من تجار وسكان الحارة والمتجولة ومعتادي سوقها الصغير .
كنت أراهما يجلسان كالمعتاد كل يوم إمام المسجد والمؤذن يتجادلان على عتبات مدخل المسجد وإلي جوارهما ذلك الفكهاني الصعيدي ذي الشوارب الطويلة المنسقة يحادثهما وهو ينظر إلي صناديق الفاكهة التي يسندها بعناية ونظام فائق على الحائط المهترىء المقابل . وما أن تعبر المسجد بعد إلقاء التحية المعتادة حتى تري نفس المشهد اليومي صاحب المطبعة الصغيرة المختصة بطباعة الفواتير والكمبيالات يجلس على كرسيه أمام مدخل مطبعته وهو يقرأ القرآن في خشوع واستغراق رغم الجلبة وتصاعد الأصوات وأبواق السيارات نصف نقل الصغيرة التي تدلف إلي الحارة الضيقة محملة بقضبان النحاس في رشاقة وخفة ملحوظة دون تعريض أقدام المارة إلي أضرار .
على جانب الطريق متجر الحاج شعبان لقطع غيار طلمبات المياه ، تجلس في مقدمة المدخل تلك الفتاة صاحبة العربة الفيورا التي عادة ما تلصق سيارتها البيضاء على حائط المتجر . علمت فيما بعد أنها ابنة الحاج شعبان الذي توفاه الله وترك لهم هذا المتجر يساعدها أخويها اللذان يصغرانها .
الي الشمال داخل الحارة يقبع فندق هابيتون الذي اعتاد بعض السودانيين الإقامة فيه .
على الجانب الآخر محل صغير يشغله مكوجي لا يكاد يسع طاولة الكي . تجلس إلي جواره زوجته وابنه الصغير على كرسي أمام المدخل .
على بعد خطوات تطالعك في مقدمة المحل صورة أبيض وأسود تحكي قصة شباب غض لصحاب ورشة تصليح السيارات الحاج سيد وقد بلغه الكبر رغم صمود سيجارة كيلوباترا بيضاء بين شفتيه وهو يطالع صبية المحل ويوجههم وتارة ينظر إلي صورته المشدودة على الحائط وهو يشكو لها ما ناله الدهر من صاحبها .
على زاوية صغيرة يختبئ مقهى صغير بقرب ورشة نجارة لتجديد الأثاث تقوم على خدمة أهل الحارة وبضعة مقاعد مهترئة يجلس عليها بضعة زبائن يدخنون النارجيلة – أو شيشة برائحة المعسل .
يتكامل دور المقهى الصغير مع عربة الفول والفلافل التي يتحلق حولها الزبائن وصاحب العربة يمد ويحرك يديه بين زجاجات الخل وأطباق الفلافل والبهارات في رشاقة وخفة تستغرق زبائنه المتحلقين حوله في تها فت ملحوظ على طبق الفول اليومي .
نشأت بيني وبين شخوص هذه الحارة علاقات صامته وأحيانا ناطقة جعلتني مشدودا لعلاقتي بهذا المكان .
بعد سنوات من مغادرتي القاهرة عدت إلي ذات الحارة أتفقد أمكنتي وشخوصها . لا تزال الحارة على حالها ، الأصوات تنبعث من بين حيطانها ، سماؤها مغطى بقصاصات ملونة وفوانيس معلقة لا تزال تؤكد على ولاءها لشهر رمضان رغم رحيله . كنت أكثر جرأة في السؤال المباشر هذه المرة سألت صاحب المقهى عن بعد المعالم التى اختفت من الأحياء والأشياء فعلمت منه أن المكوجى قد توفاه الله قبل اسابيع وأغلق المحل ليتحول بعد ذلك لمتجر إلي عدد الإطفاء . اختفي بعض رواد الحارة عن مسرحها لكن جدرانها التي ظلت تقاوم الزمن لا تزال تختزن أصوات الباعة والسكان بينما لا يزال طريق الزقاق الضيق يحتمل وطأة أقدام الملايين التي عبرت عليه دون اكتراث منذ عهد الكسار وحتى هذه الأيام .








عمارة الثورة


الشقة رقم 706

أكثر من ست سنوات متصلة كانت حصيلة السنوات التي قضيتها في مكتبنا بعمارة الثورة الشقة رقم 706 وهو المكتب الذي كان مقرا لجريدة الوحدة ثم تواصل دوره كمكتب لحزب الأمة والمعارضة السودانية حتى انتقاله إلي مصر الجديدة بعد تطور عمل المعارضة واتخاذه طابعا جماهيريا .
عمارة الثورة مجتمع قائم بذاته تقوم بين أعضائه علاقات متنوعة تكاملت في نسيج وآحد مجمع للشركات والمؤسسات والصحف والمجلات والعيادات والشقق السكنية يقوم على خدمتها طائفة من العاملين من الرجال والنساء والسكان الإداريين .
ما أن تدلف إلي داخل العمارة حتى يقابلك المرضي من المشاة والمحمولين من المترددين على عيادة شبرد الطبية .
أمام الكاونتر الرئيسي البوابون الرئيسيون الذين يتناوبون الاشراف على العمارة حاج منصور ، وسيد ، ومصطفي ، وابراهيم من أبناء صعيد مصر يؤثرونك بسماحتهم وتأدبهم وحسن تعاملهم . تدلف إلي الطوابق العليا تصعد إلي الطوابق العليا فتجد حاجة محاسن ، وأم علاء ن وسيدة ، وهن من العلامات المميزة للعمارة ، يعلمن كل صغيرة وكبيرة داخلها ، ويحفظن أسرارها ويدركن بفطرتهن مواقع القوة والضعف في سكان العمار وشاغليها .
في الدور الخامس يقابلك محمد بابتسامته الهادئة وهو مدير مكتب مجلة المجالس الكويتية . نمت بيني وبينه صداقة قوية منذ أيام إصدار صحيفة الوحدة التي كان أحد محرريها ، مصطفي النوبي المستشار القانوني للمجلة في القاهرة ، والمحرر الفني مختار الذي مستودع القصص والأسرار الفنية وسكرتيرة المجلة شيري صاحبة الابتسامة المشرقة وغيرهم كانوا يفيضون على الدور الخامس بحيويتهم فتجد أرتال المحررين والمحررات في الصفحات الفنية المختلفة يترددون على مكتب المجلة بعد الظهيرة يحملون حصيلة صيدهم في شعاب الفن المختلفة .
مجلة المجالس من المجلات الفنية الكويتية الثرية بموضوعاتها وبالطبع فهي تعتمد على موادها الفنية على مكتب القاهرة بنسبة 90 بالمائة تقريبا . صاحبتها ورئيسة تحريرها هي الصحفية هداية سلطان السالم ن وقد اجريت معها حوارا صحفيا نشرته صحيفة الشرق القطرية وهى من الرائدات الكويتيات في مجال المطالبة بحقوق المرأة الكويتية . ورغم دورها في المجال المدني وفي الحقل الصحفي والإعلامي لسنوات عديدة إلا أن حياتها قد انتهت نهاية مؤسفة حين قام باغتيالها في الكويت أحد المهووسين من المتطرفين عند نزولها من سياراتها أمام منزلها .
بقيت علاقتي مع محمد الحنفي والزملاء بالمجالس وهى علاقة امتدت لتستوعب الهم السوداني بكل تفاصيله السياسية وهو هم وجد طريقه إلي صفحات المجلة الي جوار نجوم السينما المصرية .
كثيرا ما تقابلني ملاك سيدة في منتصف العمر ذات منصب وجمال لكنها سليطة اللسان يهابها بوابو العمارة عند صعودها إلي شقتها في نفس الطابق الذي يوجد فيه مكتبنا وعند نزولها . يتبعها عدد من العاملات في العمارة في مقدمتهن حاجة محاسن وكأنها أميرة من أميرات العصر العباسي بين وصيفاتها . كانت ملاك تستغرب لطبيعة عمل مكتبنا الذي يتردد عليه عدد من السودانيين والمصريين وأحيانا بكثافة .
وانتهزت يوما فرصة صعودي معها المصعد لتسألني عن طبيعة عمل المكتب وهوية من يترددون عليه فأجبتها ، أبدت ملاك تعاطفها ووعدت بزيارتي في المكتب ،قدمت ملاك لى نفسها بأنها حرم أستاذ كبير في القانون لها طفلان عادت من مهجرها في كندا بعد وفاة زوجها لتعيش بمصر وقد ترك لها زوجها شقتين في العمارة ، ومورد متواضع للمال .
قالت إنها تكتب الشعر وبعض المقالات والمراسلات للصحف وطلبت منى معاونتها في الوصول عبر أصدقائي إلي بعض المجلات لنشر مساهماتها . أصبحت ملاك من المهتمين بالتطورات السياسية في السودان وتغيرت كما لمست تغير نظرتها تجاه السودانيين الذين يترددون على العمارة بكثافة لم يعهدها سكانها وتعاطيها معهم .

مكتب عمارة الثورة كان ملتقي للعديد من الصحفيين المصريين الذين تعمقت بهم العلاقة على المستويين المهني والاجتماعي ، طارق حسن المحرر بالأهرام ،نورا خلف بمجلة حريتي ،أماني الطويل ، عبير العلمي ، العربي ، مجدي الحسيني الحياة .

كتابات سودانية

سودانيون فوق سطح القمر (1)

السفير على أبوسن إليه في ذكراه

( أفرح بأقصى ما استطعتَ من الهدوء ) محمود درويش


السودان وطن يذخر بنوع نادر من الرجال والنساء قلما تجد شبيها لهم لكنهم يمضون في تواضع كالأنجم بعد أن يهدوا الناس طريقا للعبور إلى غاياتهم .دائما ما يكون رحيلهم في صمت إلا من ضجيج الحزن وجلبة الفقد ومأساة فراقهم لمن سعد بصحبتهم وعشق لحظاتهم النادرة ونال من خصوصيتهم المتفردة . ومنهم من لا يزالون أحياءا يتجددون كالشمس في كل صباح تتفاوت درجات دفئهم وإشعاعهم لكنهم يظلون دوما كل في مجاله مصدرا للفكر والإبداع ووقودا نوويا للخلق والتميز تضاء بهم دروب المعرفة وتزدهي بهم الساحات . ورغم تكاثف الضباب يظلون أنجما في سماء هذا الوطن تسهر على هدأته وضياءا ينساب بين حناياه ، من مضى منهم يظل حاضرا ومن بقي يظل مؤثرا في التفاصيل .

كان على أبوسن وآحدا منهم نجما ساهرا وكأنه قد قطع العهد على نفسه أن يظل كذلك حتى ينعم الوطن بالصباح ثم يمضي ،لكن ضبابا كثيفا باعد بينه وبين غايته حتى حان ميقات الرحيل . حدثني عند مطلع التسعينات عن مشروعه الذي كان يجهد نفسه لإنجازه ( المجذوب والذكريات ) وهو أديب مرهف الحس وراوية للشعر ومنحاز لتراث أهله الشكرية شعرا وأدبا ومركزا اجتماعيا في قبلية أنيقة تحترم كل أبناء السودان . ربطتني به سنوات القاهرة أيما رباط وهي السنوات التي أعطت العمل المعارض الذي انطلق سياسيا وإعلاميا وثقافيا من مصر مذاقا خاصا ووجوها متعددة .

ورغم هجره للعمل السياسي زهدا في المشهد الذي كان ماثلا في تلك الفترة على مستوى الحزب والساحة بأكملها إلا أن وقوع انقلاب يونيو عام 89 قد منحه حافزا وطنيا هاما لمواصلة دوره الوطني منذ الأيام الأولى عندما كان وجود الناشطين السياسيين في القاهرة ممن تصدوا لعمل المعارضة في ظروف حرجة لا يتجاوز العشرة أشخاص كان أبوسن واحدا منهم .
جعل أبوسن من شقته في شارع فوزي رماح المتفرع من شارع خان يونس بمدينة المهندسين حاضنة وطنية لمهام لجنة الصياغة التى شكلها أول اجتماع للتجمع في بداياته والتى كانت تتكون من على أبوسن، حسن احمد الحسن والواثق كمير قبل أن يتم تكوين لجنة إعلامية ضمت عدد من الشخصيات الناشطة من صحفيين وكتاب فيما بعد .

كنا نجتمع لصياغة بيانات ومذكرات المعارضة وإعلانها ومتابعة المهام التى توكل للجنة وهي أوقات كانت تتسع لمناقشة قضايا عديدة منها ما هو جاد وما هو يتسم بالطرفة أو السخرية من الأشياء والأحداث . كنت أداعبه وانا أنظر إلى عصافير معلقة داخل قفص مذهب عند مدخل بلكونة الشقة وأقول له كيف نصيغ بيانا لإطلاق سراح المعتقلين وأنت تعتقل العصافر يا أستاذ ؟ فكان يستغرق في الضحك قبل أن يرمي تعليقه الساخر.
ثم احتوتنا بعد ذلك لجنة التضامن السودانية المصرية والتي كانت نتاجا للجنتين السودانية والمصرية . ولعل اهتماماتنا بشان ضرورة تطور العلاقات المصرية السودانية التى تلاقت قد حفزتنا جميعا على جعل هدف توطيد هذه العلاقات ضمن قائمة اهم الأهداف لاسيما وأن وجودنا في مصر كان يتيح لنا مثل هذه الفرصة .
كانت اللجنة تضم من الجانب السوداني كأعضاء مؤسسين في بدايتها السادة عبدلله عبيد ،طه ابراهيم المحامي ، على أبوسن ، مهدي داود ،حسن احمد الحسن ، تجاني الطيب ،أحمد السيد حمد ، عابدون أقاو ، وتجاني السيسي ، ابو الحسن فرح فضلا عن الجانب المصري برئاسة الأستاذ أحمد حمروش رئيس اللجنة المصرية للتضامن وأهم أعضائها الأستاذ يوسف الشريف وقد لعبت هذه اللجنة دورا هاما في بسط الحوار وإتاحة المنابر الفكرية والثقافية لتبادل الرأي لاسيما فيما يتعلق بمستقبل العلاقات المصرية السودانية .
اتسمت علاقة علي ابو سن بكل من عبد الله عبيد وطه ابراهيم المحامي بالخصوصية فكانوا لا يفترقون تجمعهم المقابلات والاجتماعات والجلسات الاجتماعية مع غيرهم فضلا عن اللقاءات والمؤتمرات التي تعقد في القاهرة وأحيانا في خارجها وهي علاقات أعطت بدورها نكهة خاصة للعلاقات التى طبعت تلك الفترة بنوع من الإخاء والتجرد الإنساني والمودة بين السودانيين التي كانت مثار اهتمام كثير من المصريين من الأصدقاء . كان كثير الحوار مع السيد الصادق المهدي بعد إقامته في القاهرة فقد كل واحد يكن للآخر معزة خاصة .

كان لعلي أبوسن علاقات مميزة مع كثير من السياسيين والمفكرين المصريين وقد ترافقنا في لقاءات بعضهم أذكر منهم ، السيد فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد ، وخالد محي الدين ، رئيس حزب التجمع ،وضياء الدين داؤود رئيس الحزب الناصري والأستاذ الدكتور محمد عبدا لله رئيس لجنة الشؤون العربية بمجلس الشعب المصري آنذاك وغيرهم من المثقفين والفنانين المصريين وقد كان أبوسن في كل اللقاءات وجها سودانيا مميزا يحسن التعبير وترك الانطباعات الإيجابية لدى المتلقي . فقد كان محاورا ومناقشا ومحللا لبعض الجوانب والظواهر التي كانت تمثل جانبا من النقاش .
ولعل من أهم النقاشات التي شهدتها تلك الأيام في صحبة أبو سن هو اللقاء الذي جمعنا بالأستاذ محمد حسنين هيكل في إطار الحوارات المستمرة مع المثقفين المصريين فقد تبلورت فكرة اللقاء في حوار بيني وبين الأستاذ يوسف الشريف خلال زيارته في مكتب جريدة الشرق القطرية في القاهرة الذي كنت أمده ببعض الموضوعات عن التطورات في السودان وهو المكتب الذي كان يشرف على ادارته يوسف الشريف . اقترح الشريف ما وصفه بكسر الجمود في العلاقة بين هيكل والنخبة السودانية وكان يوسف من المقربين لهيكل مثلما كان من مقربا ومحبا للسودانيين ويعتبر نفسه وآحدا منهم لما يربطه بهم من علاقات مصاهرة وصداقات قديمة .
التزم يوسف الشريف بتحديد موعد للقاء مع هيكل بعد أن تمكن من إقناعه بفتح هذا الملف وكان علىّ أن أخطر عدد محدود من الإخوة من السودانيين الذين اخترناهم حيث تصادف وصول الدكتور عمر نور الدائم من أسمرة التي يتخذها مقرا له وجميعهم وهم من المهتمين بمثل هذه اللقاءات حيث ضم اللقاء كل من الأستاذ على أبوسن ،الدكتور عمر نور الدائم ، الدكتور حيدر ابراهيم والأستاذ فضل الله محمد .
قمت بنشر محصلة اللقاء في الشرق القطرية كما قام الأستاذ يوسف الشريف بنشره في مجلة روز اليوسف بالتزامن ويعتبر يوسف من أهم كتاب روز اليوسف . شملت وقائع الحوار جوانب عديدة قدم لها الأستاذ يوسف الشريف بقلمه تحت عنوان ( وقائع حوار غير منشور مع النخبة السودانية -حول سرغياب كتاباته عن السودان ) وهذه صورة طبق الأصل لذلك اللقاء الذي تم في يوم 26 يونيو 1996 كما قدم له يوسف الشريف .
وقائع الحوار:
منذ 46 عاما بالكمال والتمام توقف الأستاذ محمد حسنين هيكل عن الكتابة في شئون السودان، واحتجاجا ضمنيا إزاء الحساسية المتواترة لدي البعض من الأشقاء في الجنوب حين يهم أشقاؤهم في الشمال إلي الكتابة التي لا تروقهم عن أوضاع السودان!.
وكان الأستاذ هيكل قد كتب مقالا شهيرا في «الأهرام» إثر إندلاع ثورة أكتوبر 1964 في السودان تحت عنوان «ثم ماذا بعد؟» خرجت في أعقابه المظاهرات العارمة إلي شوارع الخرطوم صوب مقر صحيفة «الأهرام» والسفارة المصرية تعلن غضبها المستطير، حتي أمكن احتواء ما لا تحمد عقباه.. وبعدها تحقق ما ذهب إليه هيكل في مقاله!.
ولعله نفس رد الفعل الغاضب الذي صادق كتاب «عشرة أيام في السودان» للدكتور محمد حسين هيكل باشا في الأربعينيات، حيث انبري له السودانيون بالنقد والتقريع!.
ولعلي من هنا ظل الأمر يراودني دوما لإقناع أستاذنا هيكل لعله يلقي بثقله وثاقب فكره جديدا في خضم القضايا والمشكلات المدلهمة في السودان، لكنه أثر أن يكتفي كلما جلست إليه بالاستماع إليها، وتوجيه تساولاته الذكية عنها، حتى أدركت كم هو متابع دؤوب له، وكم لديه من المعلومات الطازجة والمهمة عما يجري في السودان وحوله من تطورات خطيرة!.
علي إنني في يونيو عام 1996 عرضت علي الأستاذ هيكل فكرة أن يلتقي بعدد محدود من المثقفين السودانيين ومن رموز المعارضة لحكومة الإنقاذ، فلعل لديهم جديدا يراكم من معلوماته حول ما يجري في السودان، وفكر قليلا وقال: لك ما أردت وعلي الرحب والسعة!.
هنا في «الفراندة» الزجاجية الملحقة بمكتبه والمطلة علي النيل كنا نرقب تدفق مياهه العذبة وهي تحمل الخير والنماء من الجنوب إلي الشمال، بينما اللقاء حميما والحوار ممتعا بين «الأستاذ» وضيوفه من أهل السودان وهم الدكتور عمر نورالدايم الأمين العام لحزب الأمة والدكتور علي أبوسن السفير السابق والدكتور حيدر إبراهيم رئيس مركز الدراسات السودانية وفضل الله محمد رئيس تحرير صحيفة «الخرطوم» وحسن أحمد الحسن مراسل وكالة «يونايتدبرس» بالقاهرة آنذاك!.
بادر الدكتور عمرنورالدايم إلي مدخل للحوار، عرض فيه لبانوراما الساحة السياسية في السودان، وأحاطه بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي أفرزتها مناهج وسياسات الانقاذ، وما طرأ من المتغيرات السلبية في علاقاته بدول الجوار ومشكلة الجنوب السوداني بوجه خاص، ثم طالب بضرورة أن يولي الأستاذ هذا الواقع الجديد قدرا من فكره وجهده وقلمه بقدر أهمية السودان بالنسبة لمصر علي الصعيد السياسي والشعبي والاستراتيجي.

هيكل: كتبت مقالي «ثم ماذا بعد؟» وهو كان أول تناول لي حول قضايا السودان الحديث، فأثارت هذه المقالة كثيرا من الزعل، وأنا لدي كثير من الزعلانين الذين لا أود أن أضيف إليهم المزيد!.
نورالدايم: الواقع السياسي والفكري والمعرفي السائد الآن في السودان حكايات يفرض تناوله بصورة واضحة عبر إسهاماتك القيمة في معالجة هذه المتغيرات علي مدي 30 عاما مضت، نحن نريد لمصر أن تلعب ورا مهما ورائدا كما عودتنا دوما في المنطقة وهي مؤهلة لذلك، ولأن تصبح كما حدث في شرق آسيا وعلي غرار تجربة اليابان في حشد إمكاناتها وطاقاتها حتي تنهض بالمنطقة!.
هيكل: أنتم تتحدثون كلاما غير صحيح.. التراكم المادي أو الحضاري لليابان مختلف في المواريث.. لذا فإن المقارنة بينها ومصر غير واردة!.

قاطعه . علي أبوسن وقال: لا شك أن غياب كتاباتك عن السودان قد انعكس تلقائيا علي الصحفيين المصريين، بل وأصبحت سنة علي حد ما أكده لي الأستاذ أنيس منصور عندما سألته عن عدم كتابته حول أوضاع السودان.. وقال «إنهم سيلعونني» أنتم يا أستاذ هيكل تتحملون مسئولية كبيرة في عدم الكتابة عن السودان، فأنت رمز قومي كبير، ولا يجوز أن تعاقب الشعب السوداني بالسكوت والإمساك عن الكتابة حول قضاياها، وربما الوحيد الذي صمد من الصحفيين في علاقته بالسودان هو الأستاذ يوسف الشريف علي مدي 40 عاما وقدم مؤخرا كتابه «السودان وأهل السودان»، نحن بالطبع سعداء بالجلوس معك، فأنت دون شك بحضورك تفعل، وبغيابك تفعل، وأنت الآن غائب عن الساحة السودانية، وبغض النظر عن ردود أفعال الآخرين.. يظل هناك الكثرة من الرجال في مصر والسودان الذين يمثلون ضمير الأمة وأنت علي رأسهم (دون منازع) ونحن نريد اليوم عقد مصالحة تاريخية معك، ونريد أن تستجيب لهذا الرجاء بإلقائك نظرة شاملة ومتعمقة لدعم الوحدة الحقيقية بين شعبي وادي النيل!.
د. حيدر إبراهيم: هناك مثل سوداني يقول: «فلان مثل شجر الدليب» أي أنه يرمي بظله بعيدا، وأخشي أن يكون الأستاذ هيكل يرمي بظله بعيدا عن السودان، وهذا بالطبع خلل في العلاقة، ليست فقط لدواعي القربي بل للعوامل الاستراتيجية في العلاقة السياسية والثقافية، فإذا كانت هذه الدواعي لا تستقطب انتباه الأستاذ هيكل واهتماماته الصحفية وشواغله الفكرية، يكون هنا إذا ما أقصده من خلل و.. اسمح لي بالاستطراد، فأنا أري مصر تبحث عن دورها شمالا وشرقا وكأنها تقلل من دور السودان، بينما المتعين أن تضطلع بمسئوليتها ودورها في السودان العربي والإفريقي في السودان وهذا الدور الغائب الآن للأسف الذي كان موضع عناية جمال عبدالناصر في كتاب «فلسفة الثورة»؟!.
دور مصر المقدر والمتاح ليس في الشرق الأوسط أو الأقصي فحسب، وإنما في إفريقيا علي وجه اليقين. مصر عندما تحاول نسج خيوط علاقاتها مع دول البحر الأبيض مثلا، ينظرون إليها كدولة أقل أو أدني كما هو الحال بالنسبة للسودان، ولا يسمحون لنا إلا بدور التابع، هذه الصورة موجودة حتي بالنسبة لنظرة دول الخليج لمصر برغم كل ما قدمته مصر من تضحيات علي صعيد تحررها وتقدمها!.
هنا حاول بعض الحضور مقاطعة د. حيدر إبراهيم لكن الأستاذ هيكل طالبه بالاستمرار في عرض رؤاه مكتملة.. وقال: السودان ومصر إذن لهما مصلحة استراتيجية مهمة جدا لا خلاف حولها، وهو مكسب كبير للدائرة الإفريقية، وتأثير واضح ومؤكد فيما لو آحسن توظيفها.
هناك جانب آخر في العلاقة بحاجة إلي إيضاح وتصويب، هناك من يكتب عن المجتمع السوداني من إخواننا المصريين، لكنهم رغم قربهم جغرافيا من السودان إلا أنهم أبعد ثقافيا، بمعني أن هناك تعثرا في فهم الشخصية السودانية، فحساسية السودانيين تفسر من منظور خاطئ، بينما السودانيون لديهم حس ديمقراطي ولدي المتعلمين وحتي البسطاء منهم ولع بالحوار، وهذا المفهوم الخاطئ شكل حاجزا لا مبرر له، وإذا كان السودانيون لا يقبلون من يمتن عليهم أحد، فهذه حساسية معاكسة من جانبهم.

د. علي أبوسن أود التعليق علي ما كتبه المؤرخون العرب والأجانب حول تزامن إندلاع الثورة المهدية في السودان، وأضاف أن أول شهيد في المهدية كان مصريا اسمه أحمد العوام وهو كان مستشارا للإمام المهدي، ثورة المهدي وثورة عرابي كانتا مصرية سودانية الهوية والتوجهات سواء ضد الأتراك أو الأنجليز، وقيام دولة نيلية قوامها الشعبان ذات هوية وطنية وقومية وهذا يحتاج إلي إبراز، فالمصريون هم الذين أخذوا علي عاتقهم تدريب جيش المهدي علي الحرب الحديثة واستخدام الأسلحة النارية، ولما حوصرت مدينة «الاُبِيض» انضمت الحامية المصرية للإمام المهدي تلقائيا، وعندما اقتحم الأنصار الخرطوم وقتلوا القائد البريطاني غودرون وجاءوا برأسه إلي الإمام المهدي، عندئذ بكي وقال: كنت أنتظر أن تأتوني به حيا حتي افتدي به عرابي، وكان آنذاك أسيرا محكوم عليه بالإعدام إثر اجهاض من الإنجليز ثورته التحررية!.

كان قد مضي من الوقت أكثر من ساعة ونصف الساعة والأستاذ هيكل ينصت كعادته في يقظة واهتمام لحقائق الأوضاع المتدنية في السودان وقتئذ، بينما كان حرصه كذلك علي تدوين المعلومات التي رآها مهمة وجديدة عبر توالي حديث ضيوفه من أهل السودان و..عندئذ انبري يقول: أولا أؤكد أنكم لستم أول من فاتحني بشأن الكتابة عن السودان.. إبراهيم شكري وعادل حسين ويوسف الشريف علي سبيل المثال.
لقد زرت السودان أول مرة عام 1951 وقابلت السيدين عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني إثر إلغاء النحاس باشا اتفاقية عام 1936، دفعني إلي ذلك الكاتب الشاعر كامل الشناوي وقال لي: أنت بتكتب عن الحرب في كوريا وعن مشاكل العالم ولا تعرف السودان!.
كنت مأخوذا جدا بالسيد عبدالرحمن المهدي، إذ كان يتحدث معي بلغة صريحة وكلام واضح لا لبس فيه، خاصة فيما يتعلق بمطلب استقلال السودان، بينما السيد علي الميرغني لم يكن واضحا مثلا، وكأنه لا يريد الحديث عن السياسة معي!.
السودان بالنسبة لي يمثل شحنة عاطفية في شبابي، كان إخواننا السودانيون يشكون آنذاك من عقدة «الضم» و «التاج» لدرجة أن هناك في مصر من قال إن عبدالناصر منع حقنا في السودان، وحقيقة إنني ترويت في الكلام في السودان لا لشيء رغم أنني مدرك للمصالح المتبادلة وللبوابات الحيوية، ومدرك حتي من الناحية المصرية البحتة أن السودان هو حامل الحياة.. ليس الماء فقط، بل ومحورا من قوي لا نستطيع أن تقامر به، لكن عندما تأتي لتواجه مشكلة مشحونة بحساسية وتتحدث عن روابط مصالح، فضلا عن تركيبة السودان الإنسانية، فالأمر إذن يحتاج إلي تدقيق في الحسابات، علما بأننا أسأنا التعرف في مرات كثيرة، وليس أدل علي ذلك من إدارة علاقاتنا مع السودان عن طريق أجهزة خاصة، وعندئذ يجد الإنسان نفسه محاطا بدوائر مغلقة، أنا رد فعلي ليس عن عدم اهتمام، أو قلة تقدير، لكنني أود أن أكتب في وضوح بعيدا عن الغموض.
أذكر مرة كنا في طريقنا إلي الرباط علي طائرة واحدة كانت تقل الرئيس جمال عبدالناصر وبرفقته الرئيس جعفر نميري، وأنا كانت لدي اهتمامات وقتئذ بالثورة الليبية واتجاهاتها القومية، ولم أكن حقيقة أتابع ـ بنفس القدر ـ ما يدور في السودان، وحين سأل عبدالناصر نميري: هل تعرف هيكل؟.. قال: نعم.. ولكني آخذ عليه تجاهله لثورة السودان وكان حينها يقرأ في مجلة «المصور».
أنا مقدر جدا لهموم وشجون أهل السودان، واتصور أن لدي شحنات عاطفية ورغبة معرفية تجعلني أضع السودان بالقرب مني حتي وأنا علي البعد منه، وأذكر بالمناسبة عندما حدث انقلاب الجبهة الإسلامية إنني تحدثت مع الدكتور أسامة الباز بالتليفون، والباز كما تعلمون كان يعمل معي في وقت سابق، وسألته عن الانقلاب.. قلت له أنتم تتحدثون وكأنكم أنتم الذين أحدثتم التغيير، إذ كانت الصور والمقالات التي تملأ الصحف تكاد توحي بذلك!.
حقيقة إذن لدي مبررات من خلال تعقيدات وغموض الواقع الراهن في السودان، كذلك فإن تشابه وتضارب الاختصاصات حول السودان، ومن هنا أصبح الحديث محفوفا وشائكا عندما نتحدث عن مقدراته، والشاهد أن هناك تعقيدات تحول بيني وبين المعلومات الصحيحة، مثال ذلك مجئ الرئيس عمر البشير إلي مصر مؤخرا، وحدوث لقاءات علي مستويات عليا شوشت الصورة أمامي، وهذه الضبابية هي التي تجعلني أشعر بمسئولية كبيرة تجاه ما أكتب، أنا لا أود أن ألمس حقل ألغام، وليس لدي القدرة علي الحديث بوضوح.
رحم الله الأستاذ إبراهيم فرج، فقد طلب مني أن أكتب عن السودان إيمانا بوحدة وادي النيل، لكنني قلت له إنني أريد أن أذهب أولا للسودان حتي أكتب عنه عن قرب وبحرية كاملة ـ ماذا أفعل؟ ـ هذا ليس اختياري أن أمارس ديكتاتورية الصمت عن السودان!.
د. علي أبوسن: أعتقد إذن أن الرد ايجابي!.
هيكل: أنت تتصور أنني متجاهل السودان وأمره.. هذا ليس صحيحا، أنا أكتبت رأيي وحددت مواقفي من عدة دول وقوي سياسية من خلال معرفة موثقة، محاذري معروفة بالنسبة للسودان حين تختلف القضية، ستقول لي إنك بعدت أو تخوفت وقد زالت الأسباب الآن، وأنا أقول ليس لدي معلومات. فأخر مرة رأيت فيها السودان عام 1997 عند عقد القمة العربية بالخرطوم، بينما المرات المؤثرة كانت عام 1956، الأوطان عندي ليست جغرافيا، إنما بشر، ومن هنا ولأهمية الموضوع وحساسيته وحيويته ومواقف وسياسات القوي والجبهات المتباينة، لا بد وأن تكون لدي معلومات، فمثلا لا أتصور مقابلة مبارك للبشير إلا أن كان يعلم أن هذا النظام ليس منتهيا، وعلي ما يبدو أن الجملة الأخيرة في حديث هيكل كانت مفاجأة انتهي بعدها الكلام المباح وغير المباح.. وإذ الأيام تؤكد علي صدق نبوءة
الأستاذ هيكل!.
عندما عدت إلى السودان عبر القاهرة في مايو 2006 كانت القاهرة قد ودعت على ابوسن وكأن ترابها على موعد مع جسده النبيل ، أخبرتني الزميلة أسماء الحسيني ( سفيرة السودان للنوايا الحسنة في مصر ) بأن ابنة الراحل أبوسن في القاهرة فاتفقنا على زيارتها لتقديم واجب العزاء . هناك اهدتني نسخة من كتابه (جزئين) الذي لم يرى يوم إصداره وعرضه ( المجذوب والذكريات ) حلمه الذي حدثني عنه مطلع التسعينات فكان أجمل احتفال بذكراه يليق بتألقه.
كان لابد من زيارة قبره في مقبرة ( المنارة) بالإسكندرية التي ختم فيها آخر أيامه على تراب مصر التي عشقها رددت أمام قبره كلمات محمود درويش التى نعى بها صديقه معين بسيسو الذي مات ودفن في القاهرة ،وخفير المقبرة يسكب الماء على جنبات قبره الأنيق
( تعطيك شبرا من كفاف رمالها تعطيك خاتمة القبل )
رحل على أبوسن فقد كان أديبا ومفكرا وسياسيا يجيد كل شيء تتلاقى عنده رصانة اللغة وعبقرية المعنى وأناقة الملبس متمردا في حصافة الدبلوماسي وشيخ عرب في بشاشة الكريم ودودا يعشق الجمال في كل معانيه . لم يرضيه أن يرى حزبه السياسي ينقسم على نفسه تارة ويختطف تارة أخرى وهو عنت عبر عنه في آخر رسالة مفتوحة بعث بها إلى قيادة حزبه وكأنها خطبة وداع وعنوان حسرة ضاعفت من حمله الثقيل .

سودانيون فوق سطح القمر (2)

الفريق أول فتحي أحمد على ( شهيد الديمقراطية )

( دنيا يملكها من لا يملكها أغنى أهاليها سادتها الفقراء ) محمد الفيتو ري

حسن احمد الحسن/ واشنطن

السودان وطن يذخر بنوع نادر من الرجال والنساء قلما تجد شبيها لهم لكنهم يمضون في تواضع كالأنجم بعد أن يهدوا الناس طريقا للعبور إلى غاياتهم .دائما ما يكون رحيلهم في صمت إلا من ضجيج الحزن وجلبة الفقد ومأساة فراقهم لمن سعد بصحبتهم وعشق لحظاتهم النادرة ونال من خصوصيتهم المتفردة . ومنهم من لا يزالون أحياءا يتجددون كالشمس في كل صباح تتفاوت درجات دفئهم وإشعاعهم لكنهم يظلون دوما كل في مجاله مصدرا للفكر والإبداع ووقودا نوويا للخلق والتميز تضاء بهم دروب المعرفة وتزدهي بهم الساحات . ورغم تكاثف الضباب يظلون أنجما في سماء هذا الوطن تسهر على هدأته وضياءا ينساب بين حناياه ، من مضى منهم يظل حاضرا ومن بقي يظل مؤثرا في التفاصيل .


لم يكن الفريق أول فتحي أحمد على القائد العام للقوات المسلحة السودانية شخصا عاديا ففضلا عن الانضباط في التصرف والسلوك والحركة والسكون والمأكل والملبس وانتقاء عبارات الخطاب المهذب مع الآخر، كان إنسانا مرهفا ويمثل مدرسة خاصة في العسكرية السودانية تمزج بين الحزم والعزم والإيمان بالديمقراطية والمشاعر الإنسانية المتدفقة ، كان قائدا إنسانا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني . والغريب أنه ورغم تأثر المدرسة العسكرية السودانية بالعقيدة الشمولية التي حاولت فرضها الأنظمة الشمولية المتعاقبة في تفاصيل بنيتها إلا أن الإيمان بالديمقراطية الذي حمله فتحي ورفاقه ظل يشكل بارقة أمل تقفز كالشعاع في بناء قوات مسلحة قومية تحمي الدستور والنظام الديمقراطي وتساهم في حماية الموارد وتنميتها مثلما يحدث في النظم الديمقراطية التي تحترم شعوبها .
كثيرون هم أؤلئك الذين تناولوا سيرة الفريق أول فتحي بالتقدير والاحترام ولعل شهادة السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء المنتخب عنه بوصف فتحي القائد العام في تلك الفترة الحرجة من عمر الديمقراطية الثالثة تعكس مدى التقدير، وهو يتناول وقائع وظروف وملابسات مذكرة القوات المسلحة التي قدمها له الضباط وسلوك الفريق فتحي إزائها كقائد عام للقوات المسلحة يدرك أن واجبه حماية الدستور لا تقويضه.
"قال السيد الصادق المهدي في ذكرى تأبين الراحل الفريق فتحي أحمد على كقائد عام أسبق للقوات المسلحة ورئيس لتنظيم القيادة الشرعية في التجمع "
" إنه أثناء مذكرة القوات المسلحة وهي مذكرة لها ظروفها، لابد أن نشهد بأن الفريق فتحي وقف موقفاً ثابتاً لم ينصع لرأي المتآمرين الذين كانوا يريدون استغلال الفرصة للإطاحة بالديمقراطية. وإنما كان حريصاً على طول الخلاف والاختلاف والنقاش الذي دار أن يحافظ على الشرعية الدستورية حتى نجتاز تلك الظروف العصيبة دون أن نعطي الفرصة لمتآمرين، ولكنهم فكروا وقدروا وفعلوا ما فعلوا بعد ذلك ولكن على كل حال فإن الفريق فتحي (وكثير من زملائه) التزم بأن تحل الأزمة في إطار الشرعية الدستورية."
أما الأستاذ التجاني الطيب فقال "حتى بعد انقلاب 30 يونيو كان بوسعه أن يرضى بالامتيازات المقررة لقائد الجيش المتقاعد ولكنه اختار طريق المقاومة الشريف، راكلاً تلك الامتيازات وتاركاً مقتنياته ومقتنيات أسرته كإنسان وضابط، وهي مقتنيات كانت عزيزة عليه وقد صادرها زبانية النظام فيما صادروا. وذلك موقف لم يكن غريباً على رجل له تاريخ فتحي أحمد علي الذي لم يكتف برفض العقلية الانقلابية، بل شارك في معارضة دكتاتورية نميري وقاوم بالفعل انقلاب الجبهة ليلة 30 يونيو"
" ويضيف رفض الفريق أول فتحي أحمد علي باقتناع فكري ونفسي كامل قيادة انقلاب عسكري كان الرأي العام الشعبي قد صار مستعداً لتقبله. وقد ناقشته في ذلك أكثر من مرة، وكان يرد، وابتسامة مريرة ترف على وجهه الصبوح، بأنه لو عاد التاريخ القهقرى لأختار أن يعمل على سد الثغرات التي صاحبت تقديم المذكرة لا القيام بانقلاب كان ومازال يرفضه."
نوفمبر 1996
التقيت الفريق فتحي على متن الطائرة المصرية المغادرة إلي لندن من مطار القاهرة في يوم من أيام نوفمبر صادف السادس والعشرين منه عام 96 وإلى جانبه الأستاذ التجاني الطيب بابكر عضو هيئة قيادة التجمع عن الحزب الشيوعي وهما في طريقهما للمشاركة في الندوة التي ينظمها مجلس اللوردات البريطاني ، لتوحيد فصيلي الحركة الشعبية وتوحيد الخطاب الجنوبي وإعطاء دفعة للمعارضة السودانية بعد انجاز برنامجها في أسمرة عام 95 . وقد لعب الدكتور عمر نور الدائم ومبارك المهدي والبارونة كوكس وجون آبينر الألماني الأصل وهما صديقين للدكتور عمر لعبوا دورا أساسيا في إنجاحها وحشد عدد من اللوردات وأعضاء مجلس العموم والوزراء للمساهمة فيها .
بعد وصولنا إلي مطار هيثرو جاء من استقبل الأستاذ التجاني الطيب فيما أصرّ الفريق فتحي أن أرافقه إلى مقر إقامته وطلب من مستقبلنا الأخ العميد بشرى الفاضل ممثل مكتب القيادة الشرعية في لندن أن يتصل بالأخوين الدكتور عمر نور الدائم ومبارك المهدي ليحضرا لاحقا لي في الفندق وهما من كان علىّ انتظارهما توجهنا إلي فندق صغير بوسط لندن ، قال لي الفريق فتحي إنه اعتاد الإقامة في هذا الفندق كلما قدم إلى لندن وهو فندق (لندن هاوس) وتربطه صداقة بملاكه من اليهود المتدينين منذ سنوات عديدة جعلته زبونا من الدرجة الأولي ومن ذوي الخصوصية عند حله وترحاله.
بعد قسط قصير من الراحة التقينا في بهو الفندق حيث اقترح علىّ الفريق أن نتمشى قليلا كان حكيه ينم عن إحساس عميق بعمق وجسامة المسؤولية الملقاة على كاهله من الصعيدين العسكري والسياسي .
نفس هذا الإحساس بالمسؤولية كنت ألحظه حتى في تلك الساعات القليلة التى كنت أزوره فيها ومساعده اللواء الهادي بشرى في شقتيهما بالإسكندرية التي اتخذها الفريق مقرا وكأن علاقته وهو القائد البحار بالبحر لا انفصام فيها في مختلف الظروف . كان دائما ما يعبر عن امتنانه وتقديره لدور مكتب حزب الأمة في القاهرة الذي ظل لصيقا بهم رغم بعض الملاحظات التي يبديها في شجاعة وأدب جم ربما حول بعض التصرفات على سلوك بعض القوى السياسية في التجمع ومن بينها حزب الأمة .
في مبني ملحق بمجلس اللوردات البريطاني في الرويال إريه بويست منستر في قلب لندن كان مقر الندوة التي عقدت في قاعة متوسطة الحجم . كانت منظمة الندوة البارونة كوكس تملأ المكان جيئة وذهابا وهي تسعي للتنسيق بين الفصائل المشاركة، بينما آثار الخلاف بين فصيلي الحركة الشعبية لا تزال ماثلة في تعاطي الفصيلين بين بعضهما البعض . شارك في تلك الندوة من قيادات المعارضة ، عدد من ممثلي الفصائل منهم باقان أموم ، رياك مشار د عمر نور الدائم . جعفر أحمد عبد الله . محمد طاهر ،فاروق أبوعيسي . تجاني الطيب . الفريق فتحى أحمد على . مبارك المهدي ، د لام أكول وعدد من أعضاء تلك الوفود.
كان أهم أهداف الندوة هو تأكيد العلاقة السياسية بين مبادرة الإيقاد ومقررات أسمرة 95 . إلا أن موضوع وحدة فصائل الحركة الشعبية والمعارضة قد غلب على اتجاه الندوة . وبعد مباحثات ثنائية بين الأطراف استغرقت معظم الوقت أيد الانفصاليون بقيادة مشار مقررات أسمرة كأساس للبحث عن حل عادل . كما أبدوا رغبتهم في الانضمام للتجمع الوطني كـ فصيل مستقل .
لقد أتاحت مثل تلك المناسبات فرصا جيدة للحوار السياسي وأحيانا الصحفي مع الفريق فتحي والاستماع إلى رؤاه واكتشاف جيناته الديمقراطية وسلوكه الحضاري بل وإيمانه العميق بضرورة استعادة الديمقراطية وبناء قوات مسلحة قوية وقادرة تأهيلا وتدريبا وعتادا لحماية النظام الديمقراطي وسد منافذ الاختراق السياسي إلى جسم القوات المسلحة بكل حزم .
ثم تواترت اللقاءات بين القاهرة والإسكندرية وأديس وأسمرة منذ بدايات إعلان تنظيم القيادة الشرعية وحتى رحيل الفريق لتؤكد على حقيقة عمق الرجل وطيب معدنه ونفاذ بصيرته وصلابة مواقفه واختياره الذي دفع حياته ثمنا له .
كنت أتمنى لو أقام له رفاقه التجمعيون حفل تأبين في الخرطوم بعد أن حجزوا مقاعدهم في أروقة السلطة ومؤسساتها المختلفة في محاولة ولو خجولة لإعادة الاعتبار لقائد قدم روحه ليمهد لهم سبيل عودة مقبولة على الأقل .
بدايات الحدث
لقد سبق تكوين القيادة الشرعية للقوات المسلحة برئاسة الفريق فتحي تحضيرات ومشاورات واتصالات بين القاهرة وابوظبي ولندن والخرطوم لعب فيها المرحوم الفاتح محمد سلمان ممثلا لحزب الأمة دور الجندي المجهول وهي شخصية يعرفها عدد من أفراد القادة العسكريون وفي مقدمتهم الفريق أول فتحي والفريق عبد الرحمن سعيد والهادي بشرى والعمداء الرشيد عبدالله والسر العطا وعصام ميرغني ومجاهد حسن طه وعبد الرحمن خوجلي والشهيد جعفر رابح وغيرهم من السابقين.
وهو الدور الذي مهد السبيل لحوار عميق أفضى إلى إعلان تنظيم القيادة الشرعية في خاتمة المطاف .
أذكر نني كنت على موعد في يوم من تلك الأيام الباكرة من عام 90 باللواء الهادي بشري في داخل فندق القوات المسلحة بالدقي حيث كان حزب الأمة في تنسيق مستمر مع القيادة الشرعية حول ترتيبات إعلان تنظيم القيادة والذي كان مقررا له أن يتم من أديس أبابا . رحب بي الهادي في غرفته بالفندق وأبلغته ما كان بحوزتي من رسالة ، كان حينها يواصل الاتصال بمقر القيادة العامة في السودان ببعض الضباط الذين لا يزالون في الخدمة في محاولة لتأمين وتسهيل مهمة سفر أسرة الفريق فتحي إلى القاهرة وهي المهمة التي تمت بنجاح في اليوم التالي لذلك اللقاء بفضل العناصر الوطنية داخل القيادة العامة خوفا من أن تتعرض أسرة الفريق لأي رد انتقامي من قبل النظام ليتحدد بعد ذلك إعلان القيادة الشرعية .
ولعل هذا يدل أن حزب الأمة قام بجهد كبير ومنظم مع جميع الفصائل التي تنادت على ساحة المعارضة بل أنه أعان تلك المجموعات حتى اشتد ساعدها . وهو نفس الجهد الذي امتد منذ بدايات تكوين التجمع الوطني ليشمل بناء مؤسساته وتنظيم نشاطه ومن اهم هذه الأدوار المساهمة الفعالة في بناء تنظيم القيادة الشرعية لقوات المسلحة ، وانضمام الحركة الشعبية للتجمع الوطني .
إلا أن دوره كان يتخطى الصبغة الحزبية إلى رحابة العمل القومي لاسيما في مساندة قادة القوات المسلحة الشرفاء الذين أعلنوا وقوفهم إلى جانب شعبهم وزهدوا في كل المغريات التي كانت تحت أقدامهم وهو دور يدرك تفاصيله كل شهود تلك الفترة لكن دور حزب الأمة وطبيعته المبادرة سبب له كثير من المتاعب من قبل خصومه في النظام ومنافسيه في المعارضة فما كان ينجو من سهام سوء الظن بين الفينة والفينة رغم أن ما يبادر به ويعارضه المنافسون سرعان ما يجمعون عليه بعد حين وهناك شواهد كثيرة على ذلك . أما دوره في مساندة القيادة الشرعية للقوات المسلحة فقد كان أحد المعالم البارزة .
يقول العميد عبد الرحمن خوجلي أحد القادة البارزين في القيادة الشرعية في تعليقه على كتاب الأخ فتحي الضو ( مابعد سقوط الأقنعة ) الذي صدر مؤخرا مؤكدا دور حزب الأمة المحوري في هذا الحدث :
" تكونت القيادة الشرعية في الإسكندرية بقيادة الفريق أول فتحي احمد علي وتم إعلان أول بيان لها في إذاعة الحركة الشعبية في 25 سبتمبر عام 1990 وأسهمت في تكوينها جميع القوي السياسة وعلي الأخص لعب حزب الأمة الدور الرئيسي في تكوينها بما في ذلك فكرة العسكريين في الخارج وكل الدعم المالي في البداية قدمه حزب الأمة ولولا ذلك لما تكونت القيادة الشرعية . كان وجود القيادة الشرعية إضافة ايجابية للعمل المعارض في الخارج ولقد وجدت ترحيبا حار ا من كل القوي السياسية وكان ذلك أكثر وضوحا في مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية وعندما رشح قائد الحركة الشعبية د. جون قرنق الفريق فتحي احمد علي مسؤولا عن العمل العسكري وقال عندها " لا يمكن أن أكون قائدا للعمل العسكري والقائد العام السابق فتحي محمد علي هنا "وفي نفس مؤتمر القضايا المصيرية عام 1995 المشار إليه انتخب الفريق أول فتحي احمد علي نائبا لرئيس التجمع.
لكن هذا الدور لم يمضي في سلام لأنه كان مثار غيرة القوى المنافسة سياسيا لحزب الأمة لاسيما غيرة بعض الانفعاليين داخل هذه القوى والذي بلغ أوجه بإعلان تنظيم القيادة الشرعية في أديس أبابا ،وهو الإعلان الذي دعا حزب الأمة إلى حضوره عدد من الصحفيين المصريين والأجانب فضلا عن قادة التجمع أثارة غيرة القوى السياسية داخل التجمع نفسه حيث بدأ البعض يشكك في حيادية القيادة الشرعية وصلة قادتها بحزب الأمة والبعض الآخر يتحدث عن سيناريوهات وهمية فما كان من الفريق أول فتحي إلا أن طلب عقد اجتماع لقيادة التجمع لوضع النقاط على
الحروف.عقد الاجتماع بمنزل الأستاذ فاروق ابو عيسى بقاردن سيتي بحضور كافة قادة التجمع حيث خاطب الفريق فتحي الاجتماع في شجاعة وشفافية قائلا : "
( لقد بادر حزب الأمة للاتصال بنا لتأكيد دور القوات المسلحة القومي وضرورة وقوفها إلى جانب الشعب السوداني ممثلة في قيادتها الشرعية واتصلت اللقاءات والحوارات بيننا بعلم جميع القوى السياسية حتى تم تكوين وإعلان التنظيم ومنذ أول اتصال وحتى هذا الاجتماع قدم لنا حزب الأمة الدعم الكامل ماديا ومعنويا وسخر لنا إمكانيات جميع مكاتبه وقنواته في العواصم المختلفة وداخل السودان وهو أمر نقدره ونشكره عليه رغم أن ذلك من واجبه إذا نظرنا للأمر بشفافية .
أما الآن وبعد كل الذي سمعناه فأنا أعلن لكم أننا سنتوقف تماما عن تلقى أي دعم من حزب الأمة بشرط أن تقوموا انتم مجتمعين كتجمع بدوركم في الالتزام بتلبية احتياجاتنا الأساسية بنفس الكفاءة التي يتطلبها الدور والواجب الذي نتصدى له باسمكم وباسم الشعب السوداني بدلا عن حزب الأمة إذا كان ذلك يرضيكم مع شكرنا وتقديرنا لكل ما قام به عطاء .)
لم يكن من قول بعد قول الفريق الفصل حيث تعاظم الضباب في مساحات العلاقات بين قوى وفصائل التجمع التي عجزت كمؤسسة معارضة عن تقديم البديل الناجز حيث اصبح التجمع في خصومة تارة مستترة وتارة معلنة بين رئاسته وأمانته العامة الأمر الذي انعكس في شكل ضغوط نفسية وسياسية على تكوين وهيكل تنظيم القيادة الشرعية فيما بعد فتفرقت بين الفصائل .
وظلت تداعيات ذلك الحدث عبْ جثم على صدر الفريق فتحي حتى بلغ مداه بتعاظم السهام من حوله تارة من عدو مستتر وتارة من منافسي القيادة الشرعية من تنظيم قوات التحالف حيث تداخلت الخطوط المحلية والإقليمية والدولية فضلا عن حالة الإحباط السياسي الذي أفرزه سوء أداء التجمع وتجاذب أطراف ثوب القيادة بين رئاسته وأمانته العامة .
المشوار الأخير
وكانت رحلة الفريق فتحي إلي مدينة (ياي) بجنوب السودان مشواره الأخير بعد توليه رئاسة هيئة القيادة المشتركة لقوات المعارضة ، لتفقد أسرى القوات المسلحة لدى الحركة بعد موافقة الحركة على إطلاق سراحهم بطلب من الفريق وقبول من العقيد جون قرنق وهي مجموعة من الضباط والجنود عاشوا في أقسى الظروف وأمرها بعد أن فقدوا زملاءهم في أسوأ حرب كارثية عبثية سجلت وقائعها المريرة على أشرطة الفيديو .
رافق الفريق فتحي في تلك الرحلة عدد من القادة من عقداء وعمداء القيادة الشرعية وممثلي الفصائل العسكرية منهم أبوشرى والمالكي وآخرون ولعل ما شهده الفريق في ياي من مأساة ومشاهد تحكى سوء الخطط والتقديرات العسكرية التي أودت بأرواح آلاف الجنود والضباط من أفراد القوات المسلحة وما ماثلهم من ضحايا قوات الحركة الشعبية والأبرياء من المواطنين فضلا عن حالة البؤس التي صورتها أعين الأسرى من ضباط وجنود عاشوا لسنوات طويلة في أسوأ الأوضاع وما صحبها من سوء تغذية وأمراض فتاكة لعل كل ذلك ترك جرحا داميا في قلب القائد فعاد حزينا يقطر دما بعد أن رأى ضباطه وجنوده في مشهد لا يقوى قائد حر أن يراه .
عاد الفريق فتحي إلى الإسكندرية حيث كانت محطته الأخيرة وجاءت وفاته المفاجئة لتترك ظلالا من التساؤلات وأدوات الاستفهام كتلك التى رافقت أو ترددت بعد وفاة القائد الفلسطيني ياسر عرفات وهى اتهامات وتساؤلات رددها زملائه وأصدقائه حول سبب وفاته وما إذا كان موتا طبيعيا أو بفعل فاعل لاسيما في تلك الظروف التى ساد فيها ثقافة سوء الظن السياسي بين الفرقاء ومهما كانت الأسباب فإن حقيقة الموت واحدة ، رحل الفريق فتحي وبقيت ذكراه الخالدة .

سودانيون فوق سطح القمر (3)

الطيب محمد الطيب (الهودج الثقافي المتنقل بين ديار الوطن )

( نحن الشان ونحن النان أتينا عشان نسوى الدنيا للإنسان – تقولي شنو وتقولي منو ) سيد احمد الحردلو


حسن احمد الحسن / واشنطن

كان آخر لقاءاتي بالأستاذ الطيب محمد الطيب في القاهرة بعد منتصف التسعينات عندما أتاها زائرا ومستشفيا ، كان كالعهد به متسائلا ومستفسرا عن كل من حوله وما حوله . حديثه لا يمل تتشابك فيه الكلمات المتأنية وكأنها تريد أن تستوثق من أناقتها قبل أن تخرج لمتلقيها ، والنظرات الثاقبة الذكية التي تتخذ من عينيه المميزتين ملاذا آمنا هي ذاتها تنفذ إلى عمق السؤال . كان فخورا بتراثه الأنصاري وحافظا له لم ينكر انتماءه رغم سطوة الديكتاتورية وسوء تقديرها للخصوم الذين ينتمي إليهم ورغم التضييق عليه. يتدفق عندما يتحدث إليك عن شعراء المهدية أقاصيصهم وحكاويهم ، وهو من منطقة تعتز بانتماءاتها لتراث المهدية ولا تزال تنغرس فيها تلك الرايات التي حفظت للسودان عناقيدا من البطولة والتضحية تأسره كلمات ود سعد في سفر قرشي محمد حسن ( قصائد من شعراء المهدية )
عندما يقول ود سعد " أنصارك المنصورة – جمالون باطن ما صورة – حازوا الجنات وقصورا – والفي الخيام مقصورة .
نبت الطيب كنبت طيب في تربة تزخر بالعلم وفنون الأدب بين أفذاذ في الشعر والأدب والرواية فاستلهم من هذا المناخ مزاجه الخاص ، هي ذات المنطقة التي أوقد فيها المجاذيب نار القرآن ،وتدفق فيها المبدعون نثرا وشعرا وفكرا منهم العلامة البروفسور عبدا لله الطيب ، والشاعر الفذ محمد المهدي المجذوب ، والشاعر القومي عكير الدامر الذي قال تأكيدا لولائه وولاء ربعه لدرب الأنصارية وللإمام عبد الرحمن المهدي في خضم التحديات التي شهدها الوطن في تلك الفترة :

عهدنا فيك كنداب حربة ما بتشلخ
صرة عين جبل ملوية مابتتفلخ
من المسكة كان إيدينا يوم تتملخ
السما ينتكي وجلد النمل يتسلخ

وهي ذات المنطقة التي أنجبت الأديب الأستاذ الشاعر مدثر الحجاز الذي يحبب إليك اللغة العربية نثرا وشعرا وإلقاءا ، والذي يتميز في فن الإلقاء عبر شاشة التلفاز عندما يحلق بروائع الشعر العربي :
تعلق قلبي بطفلة عربية
تنعم بالديباج والحلى والحلل
لها نظرة لو أنها نظرت بها على راهب لصام لله وابتهل

وشاعر الكلمة العذبة المسرحي المبدع السر أحمد قدور الذي اختار لعقود أن يكون أهراما رابعا في مصر والذي أثرى ساحة الغناء والطرب في السودان بروائعه
(سألوني عن حبي أنكرت ما قريت شا فوهو متخبي في عيون تقول
ياريت ) التى تغنى بها ترباس
(ياصغير يامحيرني ومتحير أنا عمري زمانك انتا وزمانك عمرو قصير)
التى تغنى بها الكاشف ورصيد عبقري من مئات الأغنيات والمسرحيات والمؤلفات عن تاريخ الأغنية السودانية . وغيرهم من المبدعين والساسة والزعماء والنظار والشيوخ .

هذا المحيط الحيوي الذي نهل منه الطيب محمد الطيب في بداياته التى ألهمته التميز ، يمتد من منطقة المقرن والعكد والشعديناب في دامر المجذوب ونهر عطبرة وخلاوي كدباس ، و شمالا مرورا بأتبرا ودار مالي وبربر والعبيدية والباوقة عبر ديار الميرفاب والجهيماب والرباطاب والمناصير والشايقية والمحس حتى أقاصي الولاية الشمالية بين الضفتين وجنوبا مرورا بجبل ام على والعالياب والزيداب وإلى ديار الجبلاب والحريراب في شندي والمحمية بين الضفتين وعلى امتداد ولاية نهر النيل وحتى تخوم ولاية الخرطوم .

استمد الطيب خصائصه الإنسانية ومكوناته الشخصية النبيلة من مجتمع يزخر بالتفرد صاغه أعلام في الإدارة الأهلية كمختار ود رحمة ناظر الميرفاب وعمر ود رحمة الأنصاري الصميم ومن قلعة الوفاء في مضارب العكد ورموزهم كالعوض حسن على وآل ابوالقاسم وآل سعد وسلسلتهم الذهبية . وأعلام في التجارة والاقتصاد القيمي الذي يقوم على الخلق كآل طلب ( ابراهيم والطيب طلب وأنجالهم ) والجبوراب في بربر أبشر جبورة وأبناؤه الذين اثروا حركة التجارة الوطنية في أم درمان التي تستهدف بناء المجتمع لا إفقاره . وأعلام في التصوف كالشيخ الجعلي وخلفائه من الطريقة القادرية ومعلم المهدي شيخ الطريقة السمانية الشيخ محمد خير، الذي تنبأ بالمهدية ثم تبعها فضلا عن خلاوي المجاذيب ونيران القرآن المتقدة عبر القرى النيلية.
حدثني الطيب في القاهرة عن جدنا المشترك الأمير سليمان ود قمر فقال إنه قاد عمليات المواجهة التي شملت منطقة بربر والنخيلة والدامر في مواجهة حملة استيورت باشا التي أتت بواخرها عبر النيل لنجدة غوردون باشا الذي تحاصره آنذاك فيالق المهدي في الخرطوم . واستشهد سليمان ود قمر في تلك المعارك بعد أن عرقل سير بواخر استيورت باشا نحو الخرطوم حتى يتمكن الأنصار في الخرطوم من إحكام سيطرتهم ، ولم تفلت تلك البواخر إلا على أجساد المجاهدين التي أصبحت تزين صفحات الماء علوا وعلوا كورود أبيض إستوائي عالق بصفحة الماء . من ذلك القبس استمد الطيب توهجه واكتسبت المنطقة أصالتها ووطنيتها فصارت عنوانا للولاء والوفاء مثلما صار أبناؤها أوسمة على صدر البيت الكبير .

نذر الطيب نفسه وجهده لجمع التراث وكأنه يبحث عن ملامح أمة باعدت بينها المسافات من أقصى شمال السودان إلى أقصي غربه وشرقه ووسطه نيله وبحره وجنوبه باحثا وكاتبا ومحاورا ومستجلبا لكنوز الثقافة والفلكلور وامتد عطاؤه في عرض صور المجتمع وإبداعات شعوبه وقبائله دون رهق يحسه فجمع تراث البطاحين وتعقب سيرة الشيخ فرح ود تكتوك وكتب عن المسيد والإنداية وتقصى سيرة قبيلة "الحمران" من أهل تاجوج ، أدبهم وفنونهم وكتب عن تاريخ المناصير ، وقدم صورا من الدوبيت والشاشاي من مناطق النيل والبطانة وكردفان ودارفور وتحدث عن الحكامات وأغاني البنات وغيره . كان الطيب محمد الطيب مخزونا ثقافيا لا ينضب ونهرا عذبا متدفقا لا يفتر عن الجريان .
جسد الطيب محمد الطيب في كل تفاصيل حياته نوعا مثاليا من التواضع يرفعه درجات بين الناس يستعصى على الآخرين الصعود إلى مراقيه ، حيث كان جلبابه الأنصاري الأبيض وعمامته وشاله وعصاه وهي تتحلق به تبدو وكأنها تحتفي بالجسد الذي يحملها ، مثلما أن الجسد بدوره يتألق بهاءا لشفافية الروح التي تتدفق بين جوانحه .
كان من أهم ذاكرات الأمة في مجالات التراث ورمزا من رموز الثقافة والإبداع الشعبي في صوره المتعددة . ولعل ما يجد ر ذكره أن الطيب بقوميته وسودانيته وعطاءه الممتد بين الشعوب والقبائل غربا وشرقا وجنوبا ووسطا ونيلا وهو يسعى بينهم للتعارف والتلاقي عبر هذا الوطن الواسع ، كأنما يريد أن يدحض رزاز عبارات شعوبية سقيمة تضع النيل وكأنه رمزا للخصومة مع أطراف واديه شرقا وغربا بما يقدح به البعض من مقولات عجفاء ( نيل ،مركز وهامش وما بينهما ) وغير ذلك من عبارات الاستعداء وتحريض الأمكنة ضد بعضها .
كان الطيب علما من أعلام الأمة طرق مجالات لم يطرقها قبله أحد يستقصي ويجمع المعلومات من مصادرها الأساسية في شفافية وتروي أشبه في جمعه للتراث بجامع الحديث دقيقا في تمحيصه ، متفردا في بحثه وهو من الذين لفتوا الانتباه لأهمية التراث و ضرورته كلبنة أساسية من لبنات بناء الأمة في وطن متعدد متباين كالسودان . و للطيب مؤلفات ثرة نشرت في غالبها بجهوده الخاصة ولا يزال بعضها ينتظر ولعل من أهم هذه المؤلفات :
تاريخ قبيلة المناصير ، تاريخ قبيلة البطاحين ، المرشد لجمع الفلكلور ، المسيد ، الإنداية ، الشيخ فرح ودتكتوك ، الدوباي – دراسة في بحور الشعر والغناء الشعبي ، وهي مؤلفات تم بعضها بمشاركة بعض المهتمين .
ولديه مؤلفات لم ترى النور بعد منها : الإبل ، بيت البكاء ، تاريخ المديح النبوي في السودان ، الصعاليك العرب وغيرها ولعل اهتمامات ومجالات هذه المؤلفات وصاحبها تعكس الميدان الحيوي الذي يعمل فيه الطيب وهو ميدان من البحث أشبه (بالسهل الممتنع )
الغريب أن مؤسسات ووزارات الثقافة والإبداع في كل أنحاء الدنيا تهتم بالمبدعين والفنانين والمفكرين وتعمل على تشجيع الباحثين وتسعى إلى تكريمهم في حياتهم وتسويقهم عبر المؤتمرات والمهرجانات الدولية إلا في بلادنا العامرة بمبدعيها في شتى المجالات الذين لا ينالوا في حياتهم ما تغر به عيونهم وترتاح إليه نفوسهم . ومعظمهم لا يتسنى لهم رؤية مظاهر تقدير أمتهم لهم إلا من عبارات التأبين بعد غيابهم .
هل ترى أن وزارة الثقافة ستفطن إلى ضرورة تكريم المبدعين وتسويق عطائهم الثر الأحياء منهم ومن مضى كضرب من ضروب الثروة القومية هل تراها تخلد إبداعاتهم وأسمائهم في قاعات المحاضرات والمراكز الثقافية المتخصصة وعبر نشر إبداعاتهم وتسويقها في المحافل الإقليمية والدولية وتترجمها إلى أعمال إعلامية وبرامج وثائقية كسائر الأمم أم أنها ستكتفي فقط بعبارات التأبين كلما غاب نجم عن سماء الوطن .

24 أغسطس2007