Monday, August 27, 2007

الطيب محمد الطيب الهودج الثقافي المتنقل بين ديار الوطن )


سودانيون فوق سطح القمر

الطيب محمد الطيب (الهودج الثقافي المتنقل بين ديار الوطن )

( نحن الشان ونحن النان أتينا عشان نسوى الدنيا للإنسان – تقولي شنو وتقولي منو ) سيد احمد الحردلو


حسن احمد الحسن / واشنطن

كان آخر لقاءاتي بالأستاذ الطيب محمد الطيب في القاهرة بعد منتصف التسعينات عندما أتاها زائرا ومستشفيا ، كان كالعهد به متسائلا ومستفسرا عن كل من حوله وما حوله . حديثه لا يمل تتشابك فيه الكلمات المتأنية وكأنها تريد أن تستوثق من أناقتها قبل أن تخرج لمتلقيها ، والنظرات الثاقبة الذكية التي تتخذ من عينيه المميزتين ملاذا آمنا هي ذاتها تنفذ إلى عمق السؤال . كان فخورا بتراثه الأنصاري وحافظا له لم ينكر انتماءه رغم سطوة الديكتاتورية وسوء تقديرها للخصوم الذين ينتمي إليهم ورغم التضييق عليه. يتدفق عندما يتحدث إليك عن شعراء المهدية أقاصيصهم وحكاويهم ، وهو من منطقة تعتز بانتماءاتها لتراث المهدية ولا تزال تنغرس فيها تلك الرايات التي حفظت للسودان عناقيدا من البطولة والتضحية تأسره كلمات ود سعد في سفر قرشي محمد حسن ( قصائد من شعراء المهدية )
عندما يقول ود سعد " أنصارك المنصورة – جمالون باطن ما صورة – حازوا الجنات وقصورا – والفي الخيام مقصورة .
نبت الطيب كنبت طيب في تربة تزخر بالعلم وفنون الأدب بين أفذاذ في الشعر والأدب والرواية فاستلهم من هذا المناخ مزاجه الخاص ، هي ذات المنطقة التي أوقد فيها المجاذيب نار القرآن ،وتدفق فيها المبدعون نثرا وشعرا وفكرا منهم العلامة البروفسور عبدا لله الطيب ، والشاعر الفذ محمد المهدي المجذوب ، والشاعر القومي عكير الدامر الذي قال تأكيدا لولائه وولاء ربعه لدرب الأنصارية وللإمام عبد الرحمن المهدي في خضم التحديات التي شهدها الوطن في تلك الفترة :

عهدنا فيك كنداب حربة ما بتشلخ
صرة عين جبل ملوية مابتتفلخ
من المسكة كان إيدينا يوم تتملخ
السما ينتكي وجلد النمل يتسلخ

وهي ذات المنطقة التي أنجبت الأديب الأستاذ الشاعر مدثر الحجاز الذي يحبب إليك اللغة العربية نثرا وشعرا وإلقاءا ، والذي يتميز في فن الإلقاء عبر شاشة التلفاز عندما يحلق بروائع الشعر العربي :
تعلق قلبي بطفلة عربية
تنعم بالديباج والحلى والحلل
لها نظرة لو أنها نظرت بها على راهب لصام لله وابتهل

وشاعر الكلمة العذبة المسرحي المبدع السر أحمد قدور الذي اختار لعقود أن يكون أهراما رابعا في مصر والذي أثرى ساحة الغناء والطرب في السودان بروائعه
(سألوني عن حبي أنكرت ما قريت شا فوهو متخبي في عيون تقول
ياريت ) التى تغنى بها ترباس
(ياصغير يامحيرني ومتحير أنا عمري زمانك انتا وزمانك عمرو قصير)
التى تغنى بها الكاشف ورصيد عبقري من مئات الأغنيات والمسرحيات والمؤلفات عن تاريخ الأغنية السودانية . وغيرهم من المبدعين والساسة والزعماء والنظار والشيوخ .

هذا المحيط الحيوي الذي نهل منه الطيب محمد الطيب في بداياته التى ألهمته التميز ، يمتد من منطقة المقرن والعكد والشعديناب في دامر المجذوب ونهر عطبرة وخلاوي كدباس ، و شمالا مرورا بأتبرا ودار مالي وبربر والعبيدية والباوقة عبر ديار الميرفاب والجهيماب والرباطاب والمناصير والشايقية والمحس حتى أقاصي الولاية الشمالية بين الضفتين وجنوبا مرورا بجبل ام على والعالياب والزيداب وإلى ديار الجبلاب والحريراب في شندي والمحمية بين الضفتين وعلى امتداد ولاية نهر النيل وحتى تخوم ولاية الخرطوم .

استمد الطيب خصائصه الإنسانية ومكوناته الشخصية النبيلة من مجتمع يزخر بالتفرد صاغه أعلام في الإدارة الأهلية كمختار ود رحمة ناظر الميرفاب وعمر ود رحمة الأنصاري الصميم ومن قلعة الوفاء في مضارب العكد ورموزهم كالعوض حسن على وآل ابوالقاسم وآل سعد وسلسلتهم الذهبية . وأعلام في التجارة والاقتصاد القيمي الذي يقوم على الخلق كآل طلب ( ابراهيم والطيب طلب وأنجالهم ) والجبوراب في بربر أبشر جبورة وأبناؤه الذين اثروا حركة التجارة الوطنية في أم درمان التي تستهدف بناء المجتمع لا إفقاره . وأعلام في التصوف كالشيخ الجعلي وخلفائه من الطريقة القادرية ومعلم المهدي شيخ الطريقة السمانية الشيخ محمد خير، الذي تنبأ بالمهدية ثم تبعها فضلا عن خلاوي المجاذيب ونيران القرآن المتقدة عبر القرى النيلية.
حدثني الطيب في القاهرة عن جدنا المشترك الأمير سليمان ود قمر فقال إنه قاد عمليات المواجهة التي شملت منطقة بربر والنخيلة والدامر في مواجهة حملة استيورت باشا التي أتت بواخرها عبر النيل لنجدة غوردون باشا الذي تحاصره آنذاك فيالق المهدي في الخرطوم . واستشهد سليمان ود قمر في تلك المعارك بعد أن عرقل سير بواخر استيورت باشا نحو الخرطوم حتى يتمكن الأنصار في الخرطوم من إحكام سيطرتهم ، ولم تفلت تلك البواخر إلا على أجساد المجاهدين التي أصبحت تزين صفحات الماء علوا وعلوا كورود أبيض إستوائي عالق بصفحة الماء . من ذلك القبس استمد الطيب توهجه واكتسبت المنطقة أصالتها ووطنيتها فصارت عنوانا للولاء والوفاء مثلما صار أبناؤها أوسمة على صدر البيت الكبير .

نذر الطيب نفسه وجهده لجمع التراث وكأنه يبحث عن ملامح أمة باعدت بينها المسافات من أقصى شمال السودان إلى أقصي غربه وشرقه ووسطه نيله وبحره وجنوبه باحثا وكاتبا ومحاورا ومستجلبا لكنوز الثقافة والفلكلور وامتد عطاؤه في عرض صور المجتمع وإبداعات شعوبه وقبائله دون رهق يحسه فجمع تراث البطاحين وتعقب سيرة الشيخ فرح ود تكتوك وكتب عن المسيد والإنداية وتقصى سيرة قبيلة "الحمران" من أهل تاجوج ، أدبهم وفنونهم وكتب عن تاريخ المناصير ، وقدم صورا من الدوبيت والشاشاي من مناطق النيل والبطانة وكردفان ودارفور وتحدث عن الحكامات وأغاني البنات وغيره . كان الطيب محمد الطيب مخزونا ثقافيا لا ينضب ونهرا عذبا متدفقا لا يفتر عن الجريان .
جسد الطيب محمد الطيب في كل تفاصيل حياته نوعا مثاليا من التواضع يرفعه درجات بين الناس يستعصى على الآخرين الصعود إلى مراقيه ، حيث كان جلبابه الأنصاري الأبيض وعمامته وشاله وعصاه وهي تتحلق به تبدو وكأنها تحتفي بالجسد الذي يحملها ، مثلما أن الجسد بدوره يتألق بهاءا لشفافية الروح التي تتدفق بين جوانحه .
كان من أهم ذاكرات الأمة في مجالات التراث ورمزا من رموز الثقافة والإبداع الشعبي في صوره المتعددة . ولعل ما يجد ر ذكره أن الطيب بقوميته وسودانيته وعطاءه الممتد بين الشعوب والقبائل غربا وشرقا وجنوبا ووسطا ونيلا وهو يسعى بينهم للتعارف والتلاقي عبر هذا الوطن الواسع ، كأنما يريد أن يدحض رزاز عبارات شعوبية سقيمة تضع النيل وكأنه رمزا للخصومة مع أطراف واديه شرقا وغربا بما يقدح به البعض من مقولات عجفاء ( نيل ،مركز وهامش وما بينهما ) وغير ذلك من عبارات الاستعداء وتحريض الأمكنة ضد بعضها .
كان الطيب علما من أعلام الأمة طرق مجالات لم يطرقها قبله أحد يستقصي ويجمع المعلومات من مصادرها الأساسية في شفافية وتروي أشبه في جمعه للتراث بجامع الحديث دقيقا في تمحيصه ، متفردا في بحثه وهو من الذين لفتوا الانتباه لأهمية التراث و ضرورته كلبنة أساسية من لبنات بناء الأمة في وطن متعدد متباين كالسودان . و للطيب مؤلفات ثرة نشرت في غالبها بجهوده الخاصة ولا يزال بعضها ينتظر ولعل من أهم هذه المؤلفات :
تاريخ قبيلة المناصير ، تاريخ قبيلة البطاحين ، المرشد لجمع الفلكلور ، المسيد ، الإنداية ، الشيخ فرح ودتكتوك ، الدوباي – دراسة في بحور الشعر والغناء الشعبي ، وهي مؤلفات تم بعضها بمشاركة بعض المهتمين .
ولديه مؤلفات لم ترى النور بعد منها : الإبل ، بيت البكاء ، تاريخ المديح النبوي في السودان ، الصعاليك العرب وغيرها ولعل اهتمامات ومجالات هذه المؤلفات وصاحبها تعكس الميدان الحيوي الذي يعمل فيه الطيب وهو ميدان من البحث أشبه (بالسهل الممتنع )
الغريب أن مؤسسات ووزارات الثقافة والإبداع في كل أنحاء الدنيا تهتم بالمبدعين والفنانين والمفكرين وتعمل على تشجيع الباحثين وتسعى إلى تكريمهم في حياتهم وتسويقهم عبر المؤتمرات والمهرجانات الدولية إلا في بلادنا العامرة بمبدعيها في شتى المجالات الذين لا ينالوا في حياتهم ما تغر به عيونهم وترتاح إليه نفوسهم . ومعظمهم لا يتسنى لهم رؤية مظاهر تقدير أمتهم لهم إلا من عبارات التأبين بعد غيابهم .
هل ترى أن وزارة الثقافة ستفطن إلى ضرورة تكريم المبدعين وتسويق عطائهم الثر الأحياء منهم ومن مضى كضرب من ضروب الثروة القومية هل تراها تخلد إبداعاتهم وأسمائهم في قاعات المحاضرات والمراكز الثقافية المتخصصة وعبر نشر إبداعاتهم وتسويقها في المحافل الإقليمية والدولية وتترجمها إلى أعمال إعلامية وبرامج وثائقية كسائر الأمم أم أنها ستكتفي فقط بعبارات التأبين كلما غاب نجم عن سماء الوطن .

24 أغسطس2007



No comments: