Monday, August 27, 2007



القاهرة وإلفه الأمكنة


حارة على الكسار .. كانت هي طريقي المعتاد الذي اعبر من خلاله كل يوم لأكثر من ست سنوات من ميدان رمسيس إلي عمارة الثورة حيث يقبع مكتبنا الذي استئجرناه كمقر لجريدة الوحدة وتحول بعد ذلك إلي مكتب إعلامي للمعارضة قبل الانتقال الي مصر الجديدة .
سميت هذه الحارة باسم احد عمالقة الكوميديا في مصر وهو الفنان على الكسار . و علي محمد الكسار ولد في 13 يونيو 1887 بحي البغالة بالقاهرة وكان والده سروجي ولم يتعلم علي الكسار حرفة والده كما لم يتعلم القراءة والكتابة وعمل كمساعد طباخ لخاله وهو في التاسعة من عمره مما أتاح له فرصة الاختلاط مع النوبيين من بوابين وسفرجية وسائقين وتعلم لهجتهم وطريقة كلامهم. عشق الكسار التمثيل منذ صغره وفي العام 1907 كون فرقة تمثيلية تحت اسم دار التمثيل ، وانتقل بعد ذلك للعمل في فرقة دار السلام بحي الحسين إلي أن ظهر في شخصية عثمان عبدا لباسط الخادم البربري في العام 1917 -واستطاع بهذه الشخصية أن يكون نداً لكشكش بك والتي كان يقدمها نجيب الريحاني.
لا تزال حارة على الكسار تتمسك بشكلها القديم رغم ما طرأ على بعض جنباتها من عمليات تجميل موضعي . تتلاصق جنباتها المتعرجة التي أفلح بعض تجار النحاس إلي تحويلها إلي محلات صغيرة لبيع قضبان النحاس وأدوات ومعدات الإطفاء .
كنت أدلف صباح كل يوم إلي الحارة من ميدان رمسيس عبر شارع الجمهورية ، الصورة تتكرر كل يوم قد تختلف قليلا في بعض تصرفات الناس وإيماءاتهم وربما عباراتهم و صياحهم اليومي .
أول ما يقابلك عند مدخل الحارة ذلك الجامع العتيق الذي كان في كامل زينته في عصر هذه الحارة الذهبي وقد ظل المسجد صامدا أمام حركة التغيير كالعديد من مساجد القاهرة التاريخية التي حافظت على وقارها على مدار الزمن . يؤم المسجد المصلون من تجار وسكان الحارة والمتجولة ومعتادي سوقها الصغير .
كنت أراهما يجلسان كالمعتاد كل يوم إمام المسجد والمؤذن يتجادلان على عتبات مدخل المسجد وإلي جوارهما ذلك الفكهاني الصعيدي ذي الشوارب الطويلة المنسقة يحادثهما وهو ينظر إلي صناديق الفاكهة التي يسندها بعناية ونظام فائق على الحائط المهترىء المقابل . وما أن تعبر المسجد بعد إلقاء التحية المعتادة حتى تري نفس المشهد اليومي صاحب المطبعة الصغيرة المختصة بطباعة الفواتير والكمبيالات يجلس على كرسيه أمام مدخل مطبعته وهو يقرأ القرآن في خشوع واستغراق رغم الجلبة وتصاعد الأصوات وأبواق السيارات نصف نقل الصغيرة التي تدلف إلي الحارة الضيقة محملة بقضبان النحاس في رشاقة وخفة ملحوظة دون تعريض أقدام المارة إلي أضرار .
على جانب الطريق متجر الحاج شعبان لقطع غيار طلمبات المياه ، تجلس في مقدمة المدخل تلك الفتاة صاحبة العربة الفيورا التي عادة ما تلصق سيارتها البيضاء على حائط المتجر . علمت فيما بعد أنها ابنة الحاج شعبان الذي توفاه الله وترك لهم هذا المتجر يساعدها أخويها اللذان يصغرانها .
الي الشمال داخل الحارة يقبع فندق هابيتون الذي اعتاد بعض السودانيين الإقامة فيه .
على الجانب الآخر محل صغير يشغله مكوجي لا يكاد يسع طاولة الكي . تجلس إلي جواره زوجته وابنه الصغير على كرسي أمام المدخل .
على بعد خطوات تطالعك في مقدمة المحل صورة أبيض وأسود تحكي قصة شباب غض لصحاب ورشة تصليح السيارات الحاج سيد وقد بلغه الكبر رغم صمود سيجارة كيلوباترا بيضاء بين شفتيه وهو يطالع صبية المحل ويوجههم وتارة ينظر إلي صورته المشدودة على الحائط وهو يشكو لها ما ناله الدهر من صاحبها .
على زاوية صغيرة يختبئ مقهى صغير بقرب ورشة نجارة لتجديد الأثاث تقوم على خدمة أهل الحارة وبضعة مقاعد مهترئة يجلس عليها بضعة زبائن يدخنون النارجيلة – أو شيشة برائحة المعسل .
يتكامل دور المقهى الصغير مع عربة الفول والفلافل التي يتحلق حولها الزبائن وصاحب العربة يمد ويحرك يديه بين زجاجات الخل وأطباق الفلافل والبهارات في رشاقة وخفة تستغرق زبائنه المتحلقين حوله في تها فت ملحوظ على طبق الفول اليومي .
نشأت بيني وبين شخوص هذه الحارة علاقات صامته وأحيانا ناطقة جعلتني مشدودا لعلاقتي بهذا المكان .
بعد سنوات من مغادرتي القاهرة عدت إلي ذات الحارة أتفقد أمكنتي وشخوصها . لا تزال الحارة على حالها ، الأصوات تنبعث من بين حيطانها ، سماؤها مغطى بقصاصات ملونة وفوانيس معلقة لا تزال تؤكد على ولاءها لشهر رمضان رغم رحيله . كنت أكثر جرأة في السؤال المباشر هذه المرة سألت صاحب المقهى عن بعد المعالم التى اختفت من الأحياء والأشياء فعلمت منه أن المكوجى قد توفاه الله قبل اسابيع وأغلق المحل ليتحول بعد ذلك لمتجر إلي عدد الإطفاء . اختفي بعض رواد الحارة عن مسرحها لكن جدرانها التي ظلت تقاوم الزمن لا تزال تختزن أصوات الباعة والسكان بينما لا يزال طريق الزقاق الضيق يحتمل وطأة أقدام الملايين التي عبرت عليه دون اكتراث منذ عهد الكسار وحتى هذه الأيام .








عمارة الثورة


الشقة رقم 706

أكثر من ست سنوات متصلة كانت حصيلة السنوات التي قضيتها في مكتبنا بعمارة الثورة الشقة رقم 706 وهو المكتب الذي كان مقرا لجريدة الوحدة ثم تواصل دوره كمكتب لحزب الأمة والمعارضة السودانية حتى انتقاله إلي مصر الجديدة بعد تطور عمل المعارضة واتخاذه طابعا جماهيريا .
عمارة الثورة مجتمع قائم بذاته تقوم بين أعضائه علاقات متنوعة تكاملت في نسيج وآحد مجمع للشركات والمؤسسات والصحف والمجلات والعيادات والشقق السكنية يقوم على خدمتها طائفة من العاملين من الرجال والنساء والسكان الإداريين .
ما أن تدلف إلي داخل العمارة حتى يقابلك المرضي من المشاة والمحمولين من المترددين على عيادة شبرد الطبية .
أمام الكاونتر الرئيسي البوابون الرئيسيون الذين يتناوبون الاشراف على العمارة حاج منصور ، وسيد ، ومصطفي ، وابراهيم من أبناء صعيد مصر يؤثرونك بسماحتهم وتأدبهم وحسن تعاملهم . تدلف إلي الطوابق العليا تصعد إلي الطوابق العليا فتجد حاجة محاسن ، وأم علاء ن وسيدة ، وهن من العلامات المميزة للعمارة ، يعلمن كل صغيرة وكبيرة داخلها ، ويحفظن أسرارها ويدركن بفطرتهن مواقع القوة والضعف في سكان العمار وشاغليها .
في الدور الخامس يقابلك محمد بابتسامته الهادئة وهو مدير مكتب مجلة المجالس الكويتية . نمت بيني وبينه صداقة قوية منذ أيام إصدار صحيفة الوحدة التي كان أحد محرريها ، مصطفي النوبي المستشار القانوني للمجلة في القاهرة ، والمحرر الفني مختار الذي مستودع القصص والأسرار الفنية وسكرتيرة المجلة شيري صاحبة الابتسامة المشرقة وغيرهم كانوا يفيضون على الدور الخامس بحيويتهم فتجد أرتال المحررين والمحررات في الصفحات الفنية المختلفة يترددون على مكتب المجلة بعد الظهيرة يحملون حصيلة صيدهم في شعاب الفن المختلفة .
مجلة المجالس من المجلات الفنية الكويتية الثرية بموضوعاتها وبالطبع فهي تعتمد على موادها الفنية على مكتب القاهرة بنسبة 90 بالمائة تقريبا . صاحبتها ورئيسة تحريرها هي الصحفية هداية سلطان السالم ن وقد اجريت معها حوارا صحفيا نشرته صحيفة الشرق القطرية وهى من الرائدات الكويتيات في مجال المطالبة بحقوق المرأة الكويتية . ورغم دورها في المجال المدني وفي الحقل الصحفي والإعلامي لسنوات عديدة إلا أن حياتها قد انتهت نهاية مؤسفة حين قام باغتيالها في الكويت أحد المهووسين من المتطرفين عند نزولها من سياراتها أمام منزلها .
بقيت علاقتي مع محمد الحنفي والزملاء بالمجالس وهى علاقة امتدت لتستوعب الهم السوداني بكل تفاصيله السياسية وهو هم وجد طريقه إلي صفحات المجلة الي جوار نجوم السينما المصرية .
كثيرا ما تقابلني ملاك سيدة في منتصف العمر ذات منصب وجمال لكنها سليطة اللسان يهابها بوابو العمارة عند صعودها إلي شقتها في نفس الطابق الذي يوجد فيه مكتبنا وعند نزولها . يتبعها عدد من العاملات في العمارة في مقدمتهن حاجة محاسن وكأنها أميرة من أميرات العصر العباسي بين وصيفاتها . كانت ملاك تستغرب لطبيعة عمل مكتبنا الذي يتردد عليه عدد من السودانيين والمصريين وأحيانا بكثافة .
وانتهزت يوما فرصة صعودي معها المصعد لتسألني عن طبيعة عمل المكتب وهوية من يترددون عليه فأجبتها ، أبدت ملاك تعاطفها ووعدت بزيارتي في المكتب ،قدمت ملاك لى نفسها بأنها حرم أستاذ كبير في القانون لها طفلان عادت من مهجرها في كندا بعد وفاة زوجها لتعيش بمصر وقد ترك لها زوجها شقتين في العمارة ، ومورد متواضع للمال .
قالت إنها تكتب الشعر وبعض المقالات والمراسلات للصحف وطلبت منى معاونتها في الوصول عبر أصدقائي إلي بعض المجلات لنشر مساهماتها . أصبحت ملاك من المهتمين بالتطورات السياسية في السودان وتغيرت كما لمست تغير نظرتها تجاه السودانيين الذين يترددون على العمارة بكثافة لم يعهدها سكانها وتعاطيها معهم .

مكتب عمارة الثورة كان ملتقي للعديد من الصحفيين المصريين الذين تعمقت بهم العلاقة على المستويين المهني والاجتماعي ، طارق حسن المحرر بالأهرام ،نورا خلف بمجلة حريتي ،أماني الطويل ، عبير العلمي ، العربي ، مجدي الحسيني الحياة .

No comments: